الأحد، 19 يونيو 2011

حكايات السجون من أفواه المساجين

من أفواه المساجين:
حكايات السجون أثناء الثورة

هنا المنطقة المركزية لسجون طرة، حيث الحراسة المشددة والدبابات وأفراد الأمن الذين انتشروا حول المكان فتحول إلي ثكنة عسكرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وخلف الأسوار يتوارى كل من: علاء وجمال مبارك، أحمد نظيف وحكومته وأعوانه ورموز نظام أكل من لحمنا وارتوى من دماء الشعب، هنا قد يأتي غدًا أو بعد غد المخلوع مبارك في سابقة قد تكون الأولى من نوعها في تاريخ الشعوب العربية، ليكون هو وابناه وأركان نظامه أيضًا نزلاء زنازين عاش فيها قبلهم سجناء سياسيون لايزال كثيرون منهم خلف القضبان، إنها تدابير الله في خلقه.
هذا المكان لم يدخله صحفي قط سوى مكرم محمد أحمد أثناء حوارات صحفية أجراها في بداية التسعينيات مع بعض قيادات الجماعات الإسلامية حول مبادرة وقف العنف.
تلك المنطقة المحفوفة بالوجع والمليئة بسنوات شباب ورجولة انفرطت هنا في دهاليز تلك البناية الغامضة، العقرب، شديد الحراسة، سجن 992 طرة، كلها مسميات لهذا السجن الذي ظل منذ إنشائه في العام 1993 سرًا من أسرار الدولة البوليسية في مصر، وأنشيء العقرب بمعونة أمريكية خصيصًا ليكون مأوى للسجناء والمعتقلين من الجماعات الإسلامية، كما كان دائماً السجن اللغز في سلسلة السجون المصرية الذي لا أحد يعرف عنه شيئًا ربما بسبب أن كل نزلائه قبل ثورة يناير كانوا من السياسيين المحكومين أو المعتقلين في قضايا كبرى، فهنا يعيش المهندس محمد الظواهري شقيق الدكتور أيمن الظواهري، ومنذ أيام خرج منه بدري مخلوف بعدما قضي عشرات السنين خلف جدران هذا المكان الغامض، وهنا أصحاب قضايا "الوعد وطلائع الفتح واغتيال السادات وفرج فودة ومحاولي اغتيال نجيب محفوظ"، وهنا أيضًا أصحاب قضايا "العائدون من ألبانيا وتفجيرات الأزهر والتحرير والسيدة عائشة"، هنا عالم آخر من الحكايات والتفاصيل المثيرة والغريبة التي تتناقض في الرؤى ما بين أصحابها، وبين من وضعوهم خلف هذه القضبان.
ودخول العقرب لأي زائر أمرًا قاسيًا، باب حديدي ثقيل، أخضر اللون، تمر عبره إلى مكان ضيق مثل صندوق صغير، ثم تعبر بوابة أظنها إليكترونية، تعبر من حجرةٍ إلى حجرة، ومن ممر إلى ممر، لتجد نفسك فجأة فى مكان متسع عبارة عن حديقة كبيرة، هي أرض الملعب، بجوارها مكان آخر مخصص للزيارة، وعبر بوابة من القضبان الحديدية تدخل فتغلق خلفك لتجد نفسك واقفًا في بهو صغير وسط مجموعة أخرى من الغرف الصغيرة منها مكتب مأمور السجن.
يقول مجدي إدريس حسن، أحد المحكومين في هذه قضية "تنظيم الوعد" المعروفة إن اسم التنظيم اشتق من عنوان رسالة بحثية كان قد تقدم بها لإحدى المسابقات التي نظمها المركز الإسلامي بدولة الإمارات، وعندما ألقت الشرطة القبض عليه وزملائه اختارت هذا المسمى للقضية.
وعن أحداث أو محاولات الهروب وقت الثورة، يقول إدريس: كنت آنذاك في سجن ليمان طرة حين سادت حالة من التذمر بين السجناء الجنائيين، وأخذوا يطرقون علي أبواب الغرف من يوم الجمعة 28 يناير، وبدأت إدارة السجن تتعامل معهم بإطلاق الأعيرة النارية باتجاه العنابر، كنت أتابع ما يحدث من خلف السور الفاصل بين العنابر الخاصة بالسياسيين والجنائيين، وكان هناك تواجد أمني مكثف لحراس وضباط السجن الذين لم يكتفوا بالوقوف داخل أبراج الحراسة فقط، بل انتشروا فوق السور الممتد حول السجن، خاصةً المتجه نحو عنبر الجنائيين، وكان معاون المباحث، محمد سامي، واقفًا على السور، وأنا كنت واقفًا تحت السور، بص لي وقال: "سلام عليكم يا شيخ"، "وعليكم السلام"، "عاجبك اللي بيحصل ده يا شيخ؟"، "لأ طبعا"، "والله أنا فـ أجازة، ومش ملزم بحاجة، وماحدش حـ يسألني انت ماجيتش ليه؟!!، ولا حد حـ يحاسبني، لكن علشان الخاين المجرم ده اللي اسمه العادلي، واللي عمله حـ انشرب مرارته كلنا، أنا بدافع عن بيتي وأهلي واولادي". ويرى إدريس إن عدم اتجاه السياسيين للهروب يعود إلى إن معظم السجناء السياسيين درسوا الحقوق والعلوم السياسية وحصلوا علي الماجستير أو دبلومات في العلوم، وهم داخل السجن، وكثيرون منهم لديهم أمل أن يستطيعوا الاندماج في العمل العام بعد خروجهم من السجن، فإذا فكر أحدهم في الهرب سيعيش مطاردًا وسيحرم نفسه من هذا العمل، وهذا الأمل بعد هروبه، هذا فضلاً عن أن إدارة السجن لم تسمح فعلاً للجنائيين بالخروج، بل إنها أحبطت تلك المحاولات، ونحن شهود على ذلك.
رواية أخري لسجين آخر من سجناء نفس القضية، اسمه عمر حاجاييف محمد، عمر سجين أجنبي، حوكم في قضية "تنظيم الوعد" بالسجن خمسة عشر عامًُاً، قضي منها عشرة أعوام، يقول عمر: يوم السبت 29 يناير لم تفتح أبواب الزنازين كما اعتدنا أن تفتح لنا في السابعة والنصف أو الثامنة صباحًا، وظللنا ننادي علي الشاويش حتي قام بفتحها الساعة العاشرة، وبعد العصر سمعنا أصوات هتاف المتظاهرين يمرون بالطريق خارج السجن ويهتفون "الحرية.. الحرية"، ثم فوجئنا بحريق كبير في منطقة الهيش المحيطة بالسجن، وألسنة اللهب ترتفع لأعلى السور الذي يبلغ ارتفاعه حوالي ستة أمتار، هذا السور الفاصل بين عنابر السياسيين والجنائيين، وقتها قالوا إن الحريق سببه كابل كهرباء تسبب في حريق بالهيش، لكن بعدها الشاويشية قالوا إن الناس الذين كانوا يهتفون خارجد السجن قذفوا زجاجات مولوتوف على الهيش، وسمعنا في إذاعة الـ
BBC عن اقتحام سجن أبو زعبل، والمرج، وهروب المساجين، واكتشفنا حالة هياج قوية في عنبر الجنائيين، بعدها شاهدنا أفراد الحراسة في الأبراج يطلقون النار علي السجناء الجنائيين، ولما شاهدنا الأوضاع تتطور بهذا الشكل خفنا ندخل الزنازين، وأرسلنا أحدنا يطلب من الإدارة أن نظل خارج الزنازين، ووعدناهم بكلمة شرف إننا لن نفعل شيئًا، وفعلاً نمنا ليلتها في ملعب السجن، واستمر ضرب النار أكثر من أسبوع، وعرفنا إن الجيش كان يتعامل مع ناس خارج السجن حاولوا اقتحمه حوالي 3 مرات، والجيش تصدى لهم، وقتها الشاويشية كانوا يلبسون الملابس المدنية، بعد أيام من الأحداث كان هناك 4 أو 5 عساكر هم فقط الموجودون على السور، جلسوا كثيرًا من غير أكل ولا شرب ولا حتى تغيير وردية، بعدها نزلوا وشغل الشاويشية أماكنهم لفترة حتى جاء عساكر يبدو أنهم من مكان آخر غير السجن.
وأضاف عمر: لم تكن لدينا أية نية للهرب، ولم تخطر الفكرة لنا من الأساس، ولماذا نهرب وفينا من أمضى سنوات طويلة في السجن وبقي علي خروجه شهور، ومن كان أنهى عقوبته ولم يفرج عنه بعد، فلماذا نعرض أنفسنا للمساءلة أو نظل مطاردين؟!!، لكننا كنا سعداء بالصحوة التي تشهدها مصر، وإن الناس رفضت الظلم وقالت "لا" بصوت عال، في البداية لم نكن مصدقين، قلنا يوم 25 سيمر مثل غيره، مظاهرات ووقفات احتجاجية تقوم ثم تنام، لكن عندما استمر الوضع ليوم 28 شعرنا إن ما يحدث حقيقة، وبالفعل مصر تتغير، الصراحة كلنا كنا خائفين على الناس لو أجهضت ثورتهم، التغيير كان حلم وأمل ليس للمصريين فقط، لي أنا أيضًا، لأن الذي سيغير مصر سيغير أوضاعنا أيضًا، وانتظرنا الإفراجات بعد سنين طويلة قضيناها في السجن.
أما سعيد إبراهيم محمد الذي اعتقل فيما عرف بـ "قضية تفجيرات الأزهر"، فيقول: كنت أتابع ما يحدث في عنبر الجنائي عبر النظارة، وهي فتحة صغيرة في باب حديدي بالسجن، وشاهدت كثيرًا من المصابين الجنائيين تقوم إدارة السجن بنقلهم إلى المستشفى فوق عربات كارو، وموجودة أصلاً لتحميل الرمل اللازم لاستكمال بناء في المستشفي، ولتحميل الزبالة أو بضاعة داخل السجن.
يستكمل سعيد: وفي هذه الأثناء كانت تلقى على عنابر الجنائيين القنابل المسيلة للدموع مما تسبب في حدوث حالات اختناق، وفوجئنا بأحد الضباط هو نفسه تعرض لحالة إغماء نتيجة ذلك الدخان وسقط عندنا في عنبر السياسيين، وحاولنا إفاقته فالوضع في السجن كان مضطربًا، وكان من الصعب نقله إلى المستشفى، خاصةً في ظل إطلاق النار الكثيف الذي كان يحدث، وقد شاهدت كثيرًا من المصابين فقدوا أعينهم بسبب طلقات الخرطوش فضلاً عن آخرين أصيبوا داخل الزنازين نتيجة إطلاق الحراس النار باتجاهها للسيطرة علي الوضع، وفوق سور السجن كان أحد الحراس يطلق الرصاص الحي عليهم، فقال له مجند آخر وهو يشير باتجاه عنبر الجنائيين: "إنت قتلته"، فرد الأول: "ديه أوامر علينا"، قلت لأحدهم: "حرام عليك انت بتضرب كده تموتهم"، فأجاب: "يا شيخ ديه أوامر علينا".
أبو العلا محمد عبد ربه، المحكوم عليه بالسجن في "قضية اغتيال فرج فودة" يبدأ حكايته الأولى عما حدث في سجن العقرب وقت أحداث الثورة، وأنباء هروب السجناء من سجون أخرى، فيقول: كنا حوالي مائة وخمسين سجينًا سياسيًا، وكانت الأوضاع في السجون كلها علي حد السيف، أما هنا فقد أبدى بعض الشباب تذمرهم من الوضع خاصةً مع قلقهم علي ذويهم في الخارج، ومع إحساسهم بأن الأوضاع خارج السجن تتغير مع حدوث الثورة، أرادوا أن يشاركوا فيها كما ظنوا أن هناك من قد يستمع لمظالمهم وشكواهم، فبدءوا يضيقون بالأسوار والجدران التي عاشوا خلفها سنوات طويلة، خاصةً مع سماعهم أنباء عن أن السجون قد فتحت وخرج سجناؤها، فبدءوا يطرقون أبواب الزنازين في حالة من الغضب، وقامت إدارة السجن بإطلاق بعض الأعيرة النارية على الأبواب والجدران، مما أصاب أحد السجناء، بعدها استطعنا نحن الكبار سنًا أن نتكلم معهم ونهدئهم مما جعل الإدارة تشعر بالارتياح تجاه ما أصبح عليه الأمر بعد ذلك، لم يكن همنا آنذاك هو الخروج من السجن، كل ما كنا نتمناه هو أن تنجح هذه الثورة حتى ينزاح الهم الجاثم فوق صدورنا منذ سنوات طويلة، وعندما سمعنا عن الثورة المضادة تملكنا الخوف على المصريين من أن تجهض ثورتهم التي فتحت أمامنا أبواب الأمل بعدما شعرنا بأننا سنموت خلف هذه القضبان، بعدها جاء قرار الحاكم العسكري بالإفراج عن كثير من السياسيين إلا أننا مازلنا خلف القضبان رغم تغير الزمان والظروف وطريقة التفكير في التغيير ورغم مرور العمر وما عانيناه ولاقيناه طوال سنوات طوال.
شهادة أخرى من سياسي آخر، هو جمال شهري، قضية طلائع الفتح، يقول: كنت وقت الثورة في سجن ليمان طرة، وقد بدأت حالة من الهياج في عنبر الجنائي مساء يوم 28 يناير، ورأيت الحراس والضباط يقفون بكثافة في أبراج الحراسة وفوق سور السجن، ولأننا اعتدنا علي حدوث مشاكل في الجنائي اعتقدنا أن هذه المرة ضمن المشاكل التي تحدث دائمًا، عرفت بعدها أن الجنائيين رفضوا الدخول إلى الزنازين بعد انتهاء فترة التريض اليومي لهم مما اضطر إدارة السجن لإغلاق الباب العمومي للعنبر بلحام كهرباء حتى يمنعوهم من الخروج، خاصةً أن وجودهم في الحوش خارج الزنازين يجعل هناك صعوبة في السيطرة عليهم.. ثم سمعنا أصوات الناس في الشارع يهتفون للثورة، بعدها شاهدنا ألسنة لهب لحريق في السجن الجنائي، البعض قال إن فيه ناس جاية تخرج المساجين وألقت علي السجن أشياء مشتعلة، بينما قالت الإدارة قبلها إن الحريق سببه اشتعال كابل كهرباء مما أحرق الهيش "المنطقة المزروعة حول السجن"، والبعض قال إن ديه حريقة في الجنائي، بعدها بدأ إطلاق النار باتجاه العنابر الجنائية، وقتها طلب منا الحراس دخول الزنازين، لكننا خفنا أن ندخل في ظل هذه الأوضاع لأنهم كانوا حـ ينسونا لحد ما الأوضاع تهدا وماحدش كان عارف حـ تهدى إمتي، وعدنا الإدارة إننا حـ نفضل خارج الزنازين، ومش حـ نتصرف أي تصرف يضايقهم، وفعلاً استمر الحال علي الوضع ده لمدة أسبوع، هياج متواصل في الجنائي يقابله ضرب نار مستمر من الحراس، لكن في اليوم الثالث من ضرب النار الجيش بدأ يدخل للسجن، ودخل عدد من ضباط الجيش يتفاهموا مع المساجين ويهدوهم خصوصًا إن المساجين كانوا رافضين يتعاملوا مع ضباط حراسة السجن، لقينا الشاويشية والمخبرين جايين يقولولنا: "الجيش خلاص استلم السجن واحنا مالناش دعوة بيكم بعد كده"، وقتها كنا سامعين عن اقتحام قوات الأمن لعنبر المحكوم - يقصد سجن القاهرة - لمنع 3 آلاف مسجون تحت التحقيق من الهرب، وفي الوقت ده كان فيه قتلى ومصابين عشان كده المساجين في الليمان خافوا يحصل هنا زي ما حصل هناك، اليوم ده كانت حراسات الشرطة منتشرة فوق السور، ولما انتشرت شائعة إن الجيش استلم السجن بدءوا يسيبوا المكان وينزلوا، وبعد دخول ضباط الجيش مع الجنائيين طلع حوالي 3 مخبرين علي السور، ولقيت مخبر فيهم اسمه حسن واقف بيشاور للمساجين ويقولهم اخرجوا، وقتها ضباط الجيش كانوا مديين الأمان، ولما دخلوا عندهم ما قفلوش باب العنبر وراهم، ولما المخبر شاور لهم يخرجوا عدد كبير منهم خرج فعلاً، واضطر ضباط الشرطة يتدخلوا ويضربوا نار علي الجنائيين، فرجعوا مكانهم تاني جوا العنبر، بعدها الجيش فضل واقف حراسة علي السجن من بره، وساب الحراسة الداخلية لضباط السجن.
الشيخ محمد الأسواني، أشهر سجين سياسي هارب في مصر، هكذا يطلق عليه رغم ما مر به من العمر، وما آلت إليه صحته اليوم، حيث إنه مازال سجينًا في سجن ليمان طرة، لكنه له شهادته الخاصة من داخل مستشفى السجن الذي لا تسمح له حالته الصحية بمغادرته، يقول: إحنا سمعنا إن كل شوية سجين يهرب، لكن عندنا في طرة الإدارة تصدت بحزم للجنائيين لما حصلت حالة قلق منهم، المستشفى بتاع السجن مكانه قدام المشرحة، لقيت حوالي 7 - 8 جثث لمساجين فوق عربية كارو وداخلين بيهم للمشرحة، كان معظمهم إصابات في الرأس أو الصدر أو العين، كنت عارف إنهم حاولوا أكتر من مرة يعملوا تمرد عشان يخرجوا لكن كان نفسي طريقة التعامل معاهم تكون مختلفة، يعني الضرب يبقي للتعجيز مش القتل، يبقي مثلاً في الرجلين، لكن فيه حالات كتير للمصابين كانت في العيون، لدرجة إن كتير فقدوا نظرهم بسبب الخرطوش، الأحداث ديه اتكررت بعد كده كتير واترتب عليها تغيير إدارة السجن بعد كده، لكن للأسف إللي جه جديد هرب منه مساجين قبل كده، متخيلين حـ ايعمل إيه دلوقتي.. لكن الحق يتقال ماحدش فتح السجن ولا إدي فرصة لمسجون إنه يهرب، وزي ما قلت الإدارة تصدت بحزم لمحاولات الهروب.
الشيخ محمد الأسواني له حكاية مع الهروب، فالأسواني محكوم عليه بالمؤبد في قضية اغتيال السادات، وقد استطاع الهرب من سجن ليمان طرة في العام 1988 ومعه اثنان من زملائه، هما الرائد عصام القمري، ومساعد صاعقة خميس مسلم، اللذان حوكما في نفس القضية، وبعد مرور 21 يومًا من الهروب ألقي القبض علي الأسواني فأصيب وقتل كل من عصام وخميس.


الجهاز الوطني.. والضحك على الذقون


لعبة الضحك على "الذقون":
من "مكتب الخدمة السرية" سنة 1910.. إلى "جهاز الأمن الوطني" سنة 2011


الكلام المبني للمجهول يصنع كثيرًا من المطبات اللغوية التي تصنع بدورها حالة من التوهان، وأحيانًا سوء الفهم، نفس التأثير ينتج عن الأفعال التي لا نعرف لها صاحبًا أو محرضًا أو محركًا، الأمر يشبه الحالة التى يعيشها الشارع المصري الآن بعد أحداث إمبابة والاشتباكات الطائفية التي انتهت بحرق كنيسة وقتلى ومصابين.
التوهان هنا سيد الموقف، لأن المتهم مازال غير واضح، بعض الأصابع ومقاطع الفيديو تتهم التيار السلفي، بينما أصابع أخرى أطول منها وجلسات خاصة وعامة تتهم مخابرات أجنبية وبقايا جهاز أمن الدولة بالتخطيط والتحريض لإشعال تلك الفتن المتعاقبة بداية من أطفيح وحرق كنيسة قرية صول، ثم أحداث المقطم، وحتى اشتباكات إمبابة التى جاءت أكثر دموية.
اتهام جهاز أمن الدولة هنا لا علاقة له بنظرية المؤامرة وألاعيبها وخيالها الذي يشطح بالبعض أحيانًا، بل له علاقة قوية جدًا بتلك الأمور التى كانت معلومة بالضرورة في كل شارع وكل حارة، بأن هناك خيطًا ما من التعاون يربط بين التيار السلفى، وجهاز أمن الدولة، تتضح معالمه فى تلك الفضائيات التي كانت تظهر بلا حساب في بلد كان الظهور الفضائي فيه لا يحدث إلا بإذن أمن الدولة، وفى حرية عقد اللقاءات والخطب والندوات في مساجد وجمعيات كلنا نعلم أن تراخيصها تخرج من جهاز واحد فقط، هو أمن الدولة.
اتهام أمن الدولة يرتبط أيضًا بتلك الخدعة الكبرى والمقلب الجامد والوهم الكاذب الذى خلقته وزارة الداخلية، ومررته حكومة الدكتور شرف لكي نشربه كلنا ونحن راضون بما تقدمه لنا حكومة الثورة التى هتفنا لرئيسها في ميدان التحرير، المقصود بالخدعة هنا هى لعبة وزارة الداخلية المعروفة باسم حل وتفكيك جهاز أمن الدولة المتهم الأول بإفساد هذا الوطن، واستبداله بجهاز أمني آخر يحمل لقب "جهاز الأمن الوطني".
المقلب هنا يشبه تمامًا تلك الحدوتة الشهيرة التي تتحدث عن هؤلاء السذج الذين جاءوا إليهم بشوال ملح وكتبوا عليه سكر، فهتفوا مهللين من شدة الفرحة قبل أن يتذوقوا الملح ويكتشفوا الخدعة، الحق يقال إن عملية المراوغة الكبرى التى قامت بها وزارة الداخلية فيما يخص أمر حل جهاز أمن الدولة، وإعادة تصديره للناس فى ثوب وشكل جديدين، كانت عبقرية منذ الخطوة الأولى التي بدأت في ليلة اقتحام مقرات أمن الدولة في المحافظات، وهو الأمر الذي تم في سهولة وسلاسة لا تتناسب أبدًا مع تحصينات تلك المقرات، وتحديدًا مقر الجهاز في مدينة نصر، والذي لا يمكن بأي شكل من الأشكال اقتحام أبوابه الأمنية التي يتكلف الواحد منها مليون جنيه، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى حقيقة أسداها أحد قيادات الجيش حين تردد – كذبًا – أن الجيش سمح للناس بدخول المقر الرئيسي لأمن الدولة، وبمنتهى الصدق قال القائد العسكري أن أبواب المقر فتحت من الداخل لكن شهادة الرجل ذهبت أدراج الرياح، فلم يكن ممكنًا أن يدخل الجمهور المقر دون رغبة القائمين على الجهاز في حدوث ذلك، الدلائل على وجود تسهيلات لاقتحام هذه المقرات كثيرة، ويمكنك الرجوع إليه في أي وقت، ولكن الأهم هنا أن ما حدث خلق نوعًا من الإيهام بأن الجهاز سقط وتم تدميره، حينما دمرت وحرقت مقاره الرئيسية والفرعية، ثم استكملت وزارة الداخلية المراوغة بإعلان شفوي عن إعادة تقييم ضباط الجهاز من أجل استبعاد السيئ منهم من تشكيل الجهاز الجديد، ثم اكتملت الخطة بالإعلان عن اسم جديد للجهاز هو "الأمن الوطني" مع تعهد شفوي دون أية ضمانات بعدم تدخل الجهاز الجديد فى الحياة السياسية، حتى لا يكون أحمد هو الحاج أحمد.
عبقرية عملية النصب هذه لا يمكن أن ننسب فضلها بالكامل لوزارة الداخلية الحالية، ويقول التاريخ أن الخطة التي نفذتها الداخلية لحل جهاز أمن الدولة بعد الثورة هي نفسها الخطة التي يتم تنفيذها مع الجهاز كلما اشتعلت في مصر ثورة، وكلما علت موجة الغضب الشعبي على الجهاز ورجاله، حدث هذا بعد ثورة 19، ثم تكرر نفس السيناريو بعد ثورة يوليو، ثم تكرر المشهد بكل تفاصيله بعد ثورة التصحيح في العام 1971، مجرد تلاعب في الوجه وملامح الجهاز وإداراته، وتغيير في الأسماء مع فترة سكون وصمت وهدوء دون تقديم أية أطروحات قانونية أو خطوات ملموسة لضمان عدم عودة الجهاز إلى ما هو عليه مرة أخرى.
تغيير اسم الجهاز هو أكثر لعبة تم استخدامها للتهرب من جرائمه وصورته الذهنية السيئة فى عقول المصريين، الجهاز الذي بدأ في 1910 باسم "مكتب الخدمة السرية"، ولد من يومه لوظيفة محددة وواضحة هي تعقب الحركة الوطنية والقضاء عليها، كما أعلن مؤسسه السير "ألدون جوست"، وطبقًا لما أورده الخبير الأمني اللواء حسن الوشاحي في دراسة له قيد الإعداد عن جهاز أمن الدولة، فإن لعبة تغيير اسم الجهاز بدأت بعد ثورة 19 حينما تورط رئيس الجهاز وقتها فى فتح كوبري عباس على طلبة الجامعة المتظاهرين، وحمل الجهاز بعدها اسم "قلم ضبط ب"، ثم "القسم السري الخصوصي"، وللهروب من الغضب الشعبي تم تغيير اسم الجهاز قبل ثورة يوليو وحمل اسمه الشهير "القلم السياسى" صاحب الذكريات المرعبة في عهد عبد الناصر، وفي تلك الفترة تعملق الجهاز وتجبر وأصبح أكبر وأخطر أدوات القمع في مصر كلها، وهو الأمر الذي دفع جمال عبد الناصر لأن يتخلص منه ومن الغضب الشعبي عليه وعلى رجاله بتغيير اسمه إلى "جهاز المباحث العامة"، ولكن على نفس الطريقة طريقة تغيير الأسماء والملامح فقط، أما الجهاز نفسه فظل على حاله يمارس تتبعه للمعارضين والتجسس على الصغيرة قبل الكبيرة في مصر، وعقب ثورة التصحيح والكشف عن التسجيلات والمعتقلات أراد السادات أن يلعب اللعبة نفسها ويثبت للناس أنه قادم وفي يده الحرية، وبالتالي كان لابد أن يتخلص من جهاز التسجيلات والبطش المعروف، وظهرت القضية الأشهر بقضية "انحراف قيادات جهاز المباحث العامة"، وتم القبض عليهم، ومنهم صفوت الشريف الموجود بسجن طرة الآن، وبعدها اتبع السادات نفس الخطة القديمة، وقام بتغيير اسمه إلى "جهاز أمن الدولة"، وبمرور سنة وراء أخرى في فترة السادات بدأ الجهاز يأخذ شكله المرعب الذي أصبح عليه في عصر المخلوع مبارك، بحيث أصبح متحكمًا في كل الأمور، فلا ورقة رسمية في مصر تأتي أو تذهب إلا بعلم أمن الدولة، ولا أحد يتنفس إلا باسم الجهاز الذى امتلك الحق في التعذيب والاعتقال وتسجيل المكالمات واختطاف المعارضين في الشوارع دون أن يملك أحد حق الاعتراض، حتى القضاء نفسه، وحينما اشتعلت ثورة 25 يناير وخرج الناس يطالبون برقبة رجال جهاز أمن الدولة، ويرفعون شعار حل أمن الدولة والقضاء عليه قبل شعار رغبتهم فى رغيف عيش بلا مسامير، لجأت وزارة الداخلية إلى نفس الخدعة القديمة، وقامت بتغيير اسم الجهاز دون تقديم أية ضمانة حقيقية أو قانونية تكفل عدم عودته إلى وضعه السابق.
تعاملت وزارة الداخلية مع المصريين وكأن العصافير مازالت تعشش على أقفائهم، وملامح السذاجة لم تفارق وجوههم، وتخيلوا أن تغيير الاسم أمر كاف لكي ينسى المصريون أن الجهاز الذى اعتقل وعذب الآلاف منهم وأفسد الحياة السياسية لم يحاسبه أحد، ولم ينل رجاله العقاب المناسب على ما فعلوه في مصر وشعبها، ومع الإعلان عن عودة جهاز الأمن الوطني لعمله فى المحافظات والمطارات بدأت المراكز الحقوقية ووسائل الإعلام تتلقى شكاوى بالجملة من المواطنين كلها تدور حول أن الذين عادوا للعمل تحت مسمى "جهاز الأمن الوطني" هم أنفسهم من ضباط وأمناء ومخبري جهاز أمن الدولة السابق الذين أفسدوا وعذبوا والذين طالما قدمت ضدهم شكاوى وبلاغات بسبب تعسفهم وفسادهم، حدث هذا في الغربية وفي الشرقية والوادي الجديد الذي نظم المواطنون فيه اعتصامًا احتجاجًا على بقاء ضباط أمن الدولة الفاسدين تحت لافتة "الأمن الوطني"، وهو نفس الاعتصام الذي تكرر في المنوفية، حينما فوجيء المواطنون بوجود 6 من ضباط جهاز أمن الدولة "المنحل" ضمن "جهاز الأمن الوطني" الجديد.
الطبخة التي أعدتها داحلية ما بعد الثورة للشعب باسم "جهاز الأمن الوطني" ماسخة ومائعة، والأرقام التى أوردها اللواء الوشاحى فى دراسته تكشف لماذا تحولت لعبة تغيير اسم الجهاز من لعبة مضمونة في الماضي حدثت بعد ثورتي يوليو والتصحيح إلى خدعة مفضوحة لا يمكن أن يصدقها أصغر عيل في أصغر حارة بعد ثورة 25 يناير، أمن الدولة ذلك الجهاز الجبار الذي حظي بدعم الدولة ورعاية وزارة الداخلية، وكان يملك حق تقرير الصغيرة قبل الكبيرة في البلد كان قوامه الرئيسي 3 آلاف ضابط وحوالى 15 ألف أمين وجندى، بالإضافة إلى 15 ألف موظف مدني لا يمكن تبرئتهم من أعمال الإرشاد وكتابة التقارير ونقل المعلومات، بالإضافة إلى عدد ضخم من من المرشدين يصل إلى حوالى مليون مرشد، وكل هذا موزع على مختلف محافظات مصر عبر 29 فرعا، أضف إلى تلك الأرقام حالة السرية التى أحاطت بالجهاز، والتي توحي بأن الكثير من أسرار هذا الجهاز ومقراته وسجونه ورجاله مازالوا طي الكتمان.
كل هذه الأرقام والأعداد الضخمة حاول وزير الداخلية أن يقنعنا أنه تم هيكلتها في شهر واحد فقط، هي الفترة الزمنية التى فصلت بين إعلان حل الجهاز وإعلان بدء جهاز الأمن الوطني عمله في المطارات والمحافظات المختلفة، شهر واحد في الظروف العادية حيث البلد أكثر استقرارًا، وحيث مقرات الجهاز السابق على حالها، ولم تتعرض للحرق أو التدمير والملفات لم تتعرض للسرقة والتسريب، لا يكفي أبدا لإعادة تشغيل، أو حتى وضع خطط أمنية واضحة مختلفة عن الخطط السابقة، ولا تكفي لتدريب الضباط القدامى أو الجدد على أساليب عمل تختلف عن الأساليب القديمة، شهر واحد في الظروف العادية لا يكفي لإعادة تقييم الأفراد العاملين بالجهاز والذين يبلغ عددهم مجتمعين أكثر من 33 ألف، ودراسة ملفاتهم من أجل استبعاد المتهمين في قضايا فساد وتعذيب، والتفرقة بين من هم على استعداد لتقبل أساليب العمل الجديدة، ومن هم باقون على ولائهم للنظام القديم، صعوبة حدوث ذلك خلال شهر واحد في ظروف طبيعية يعني استحالة حدوثه تمامًا في تلك الظروف الصعبة التي تعيشها مصر، والتي تعيشها وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة على وجه التحديد، ولا أعرف كيف تخيلت الداخلية أن المواطن المصري سيصدق بسهولة أنه تم تقييم 3 آلاف ضابط نصفهم على الأقل متهم بالفساد والتعذيب خلال أسبوعين أو ثلاثة بشكل يضمن براءتهم من التهم المنسوبة إليهم، ويضمن عملهم بشكل مخالف عما كان فى السابق؟!، لا أعرف كيف تخيلت أن الناس في مصر ستصدق خدعة حل جهاز أمن الدولة، وخدعة تسريح ضباطه المتهمين بالسرقة والفساد والتعذيب، ونحن لم نسمع عن ضابط أمن دولة واحد تم تقديمه للمحاكمة، أو تم التحقيق في البلاغات المقدمة ضده، والتي تملك المراكز الحقوقية منها الكثير؟!، هل يعقل ألا نسمع عن أي محاكمة أو تحقيق مع ضباط الجهاز الذين كانوا أكثر انتهاكًا للقانون وتعذيبًا للمواطنين وتبديدًا للمال العام، حيث كان الجهاز يمتلك مصروفات سرية تصل إلى 50 مليون جنيه في الشهر الواحد طبقًا للمعلومات الورادة في دراسة اللواء الوشاحي؟!، وهل يمكن أن نصدق أن الجهاز الحالي تم تطهيره من ضباط التعذيب ونحن نعلم طبقًا لتصريحات الداخلية أن 25% فقط من قوة الجهاز تم تغييرها؟.
حينما تقارن حجم فساد الجهاز وحجم الغضب الشعبي منه في كل محافظات مصر، وحجم الشكاوى المقدمة ضد ضباطه في مراكز حقوق الإنسان ووسائل الإعلام، ستعرف أن تطهير الجهاز يستدعي مضاعفة نسبة الـ 25% ثلاث مرات على الأقل.
في الأمر إذن خدعة كبرى اسمها حل جهاز أمن الدولة، خدعة تكشف أن الجهاز القمعي باقٍ ويعيش حالة سكون في انتظار اللحظة المناسبة لإعادة ممارسة نشاطه، خدعة يمكن كشفها بسهولة من خلال مراوغة وزارة الداخلية في وضع قوانين واضحة تحكم عمل الجهاز وتجعل من خططه وعمله أمورًا علانية خاضعة للمراقبة والتدقيق.
لا تصدقوا وزارة الداخلية إذن، ولا تصدقوا كذبة "جهاز الأمن الوطني"، فما حدث لم يتعدَ كونه تغييرًا لليفط والشعارات والأسماء، أمر واحد فقط يمكنه أن يبريء وزارة الداخلية، أمر بسيط لن يكلفهم سوى نشر كل أسماء الضباط العاملين في "جهاز الأمن الوطني" الآن، ومراجعة ملفات الشكاوى بوزارة الداخلية والمراكز الحقوقية ودراسة ملفات كل ضابط وتقييم أدائه في المنطقة التى كان يعمل بها، حتى نضمن أن الذين عادوا إلى الجهاز هم أهل الكفاءة والشرف، وليس أهل الواسطة وملفات التعذيب.
وسنقول دومًا أن المصالحة لا تكون إلا في مقابل المصارحة، أما عدا ذلك فهو مضيعة للوقت ومراوغة وجعل مصر على موعد مع انفجار مدو في لحظة مباغتة لا يعلمها الذين لم يتوقعوا اندلاع ثورة 25 يناير رغم تجبرهم وتحكمهم في كل شاردة وواردة، والذين كانوا يريدون أن يختلي الزوجين بإذن منهم ومن وزيرهم الموجود الآن في سجن طرة، استقيموا يرحمكم الله، وتعلموا الدرس ولو لمرة واحدة، كفى الله مصر شر أبنائها وبارك لها في الطيبين منهم!!.