الخميس، 15 أبريل 2010

تاريخ العوامات على نيل المحروسة

كان لدينا 500 عوامة على نيل المحروسة فقدنا منها 477
العوامات تشهد على حكايات لا تنتهي ولعبت دور البطل الرئيس في أغلبها

كان أديب نوبل من عشاق الحياة في العومات وعاش بعوامة 25 سنة وهجرها بعد حادثة غرق طفلة
تم اغتيال العوامات بقرار من رئيس الوزراء زكريا محي الدين لأنها كانت تؤرقه في ممارسة التجديف


أشهرها عوامة حكمت فهمي:
تاريخ العوامات على نيل المحروسة


العومات في تاريخ المحروسة شهدت بل شاركت في حكايات وأحداث لا نهاية لهما، ويصعب حصر تلك الوقائع والحروب الاجتماعية والسياسية والعاطفية واللوجستية التي دارت رحاها في عوامات، وعالم العوامات متخم بالكواليس والعلاقات الساخنة والمريبة، والعلاقات الطبيعية أيضا، حي لا تهدأ ولا يخلد مرتاديها للنوع أثناء تواجدهم فيها في أغلب الأحايين، ويظل النهر العظيم هو الحكيم الذي يتابع عن كثب ما يدور في العوامات وحولها، حيث تمتزج هناك المتناقضات بين الحب والكراهية، العمالة والمقاومة، الدعارة والعلاقات الشفيفة، المؤامرات والدفوعات، عالم يخلط بين التاريخ فيه التاريخ بالعلاقات الخاصة والعلاقات الاجتماعية، وتظل السياسة في كل الحالات وجبة شهية لأناس من المشاهير وأهل الحظوة، ولا يمكن أن نفض بكارة حكايات العوامات دون أن ذكر عوامة إخلاص حلمي، أو العوامة رقم 77، المأوى لأعداد من القطط التي تخص إخلاص في الوقت الراهن.
والعارفون بالعوامات يؤكدون أن العوامة رقم 20، والتي تقع في نهاية كوبري إمبابة الشهير الذي طالما ظهر في الأفلام المصرية، كانت ملكيتها تأول للعمدة الفنان صلاح السعدني، لكنه على الأرجح باعها منذ فترة ليست بعيدة.
والعوامات أسرار وخفايا وحكايات صغيرة مدهشة تستحق السرد، ومدعاة للتعاطي الدرامي والأدبي، حين يصبح المكان أحد الأبطال الرئيسيين في العمل الإبداعي.
ومن أشهر العومات بالطبع عوامة الراقصة اللبنانية بديعة مصابني التي تزوجت من فيلسوف الكوميديا الراحل عراقي الأصل مصري الهوى نجيب الريحاني، وكانت العوامة تصدر شرفاتها لفندق شيراتون القاهرة خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وكان العوامة لطبيعة عمل صاحبتها ونشاطها مرتعا للنجوم من الفنانين مثل المطرب ذائع الصيت محمد عبد المطلب، وتحية كاريوكا الراقصة والممثلة والناشطة السياسية الكبيرة، وسمراء السينما المصرية الراقصة سامية جمال، وصاحبة أكبر قدر من الجدل الأميرة آمال الأطرش المعروفة باسم أسمهان، وشقيقها الفنان الراحل فريد الأطرش، ولم يقتصر ارتياد عوامة مصابني على أهل الفن، فكانت مزارا دائما للساسة الكبار سيما من يعشقون التقرب للفن وأهله، ويقال أن عوامة مصابني شهدت تكوين حكومات، لذا كان الصحفيون يقتاتون الأخبار من عوامة مصابني، فهناك كان المحفز على الكلام بلا حرج في أقوى حالاته، فما أجمل الكلام بلا تحفظ، حين يكون الكبير في حالة ارتخاء وانتشاء وفضفضة.
أما الراقصة التي منحت لقب (ملكة العوامات) عن جدارة هي حكمت فهمي، التي كانت ترقص وتغني كل ليلة لجنود الاحتلال البريطاني في نادي الـ (كيت كات)، وما أحوجها بعد ليلة من الرقص والغناء بضمير للخلود بعوامتها التي تقبع على نيل الزمالك أرقى أحياء القاهرة العاشقة لليل والسهر والأضواء، ومن المعروف إن حكمت كانت جاسوسة تعمل في معية الجاسوس الألماني (يوهان إبلر)، حيث تساعدها ظروفها كراقصة تراقص جنود بريطانيا في الحصول على المعلومات من الجنرالات الإنجليز لتصب في النهاية عند الجنرال الألماني الأشهر (روميل) الذي كان يقاتل الإنجليز عند العلمين، فكانت حكمت فهمي تراقص كبار الضباط في الـ (كيت كات)، ثم تسحبهم مخمورين للعوامة، وتستدرجهم في الكلام لتتقصى المعلومات التي يثمنها الألمان غاليا، والطريف أن روميل وضباطه كانوا بالسذاجة غير المبررة، حيث صدقوا ولاء حكمت لهم، حتى لقبوها بجاسوسة روميل، وتحدثوا عن إخلاصها للجيش البريطاني الثامن في حربه ضد الألمان، هذه الثقة التي ساعدت حكمت في عملها حتى سقط الجاسوسان الألمانيان (يوهان إبلر)، و(هنريتش غيرد ساندستيت)، اللذان اطمأنا لحكمت وعوامتها التي اتخذوها محطة للاتصال بقيادة المخابرات الألمانية، وفي عوامة حكمت استعان الجاسوسان بالسادات عن طريق حكمت في صيانة وإصلاح وتطوير أجهزة الإرسال الموجودة بالعوامة، ولأن الجاسوسان اعتادا البحث عن فتيات الليل، انكشف أمرهما على يد عاهرة فرنسية هي (إيفيت عن إبلر)، فالجاسوس الأول وكان معروفا في مصر باسم (حسين جعفر) اصطادها وقضى ليلة معاها في مقابل 20 جنيها إسترلينيا، وكما كان كريما معها في المال كان كريما في الثرثرة، فلم تتردد العاهرة الفرنسية في إبلاغ الاستخبارات، وتم اعتقال الجاسوسين، ومعهما صاحبة العوامة حكمت فهمي، والسادات وزميله حسن عزت اللذين طردا من الجيش في 8 أكتوبر من العام 1942، وجرى ترحيلهما إلى سجن الأجانب ثم إلى معتقل قرب مدينة المنيا.
وكانت العوامات دوما مطمعا لمخرجي السينما، باعتبارها من أماكن التصوير العبقرية، والتي تعطي مساحة إضافية للدراما، حيث ثراء المكان وخصوصيته.
أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ الذي كان من مريدي وعشاق العوامات، حيث أقام لفترة 25 عاما بعوامة حسين باشا دياب، أنجب خلالها كريمته الكبرى، وكتب أهم أعماله منها الرواية التي تدور أحداثها في عوامة (ثرثرة فوق النيل)، وحين استيقظ محفوظ على حادث غرق طفلة من عوامة هجر حياة العوامات نهائيا، وللعوامات حضور في بعض روايات محفوظ خاصة في الثلاثية.
ومن الطريف أن شاعرنا حافظ إبراهيم أطلقوا عليه "شاعر النيل" لأنه ولد بعوامة عوامة في العام 1872.
في النصف الثاني من القرن العشرين تعرضت العوامات إلى تعدٍ واضح، حين أصدر وزير الداخلية المصري (وقتها) زكريا محيي الدين قرارا بنقل جميع العوامات من الزمالك والعجوزة إلى منطقة إمبابة في العام 1966، وسبب القرار يعود لمصلحة زكريا، فقد كان البكباشي زكريا محيي الدين يمارس من عشاق رياضة التجديف في النيل، ويمارسها بشكل دوري نهاية كل أسبوع، وشعر زكريا أن العوامات تشغل مسطحا كبيرا من مياه النيل، لذا لم يتردد في إصدار القرار الذي أغضب المشاهير من عشاق العوامات والذين ارتبطوا بعوامات بعينها، وبالفعل تم نقل 65 عوامة من العجوزة إلى إمبابة، كما تم إعدام 37 عوامة أخرى تحمل ذكريات وحكايات لا تنتهي، وتفتقد المحروسة أد عوالمها، عالم العوامات، فبعد أن كان النيل يحتضن 500 عوامة، طالت يد البطش 477 عوامة، ولم يبق للذكرى سوى 23، منها 9 عوامات مرخصة فقط.
الفرمان الوزاري لم ينل استحسان الأثرياء والباشوات الذين رفضوا الانتقال إلى المنطقة التي اعتبروها شعبية، فاضطروا إلى بيع عواماتهم بمبالغ ضئيلة أو تركها لمصيرها القاتم، مثل عوامة المطرب فريد الأطرش التي كانت تتألف من طابقين على الطراز العربي، واعتبرت المكان المفضل له لمقابلة أصدقائه من الفنانين والفنانات، وعلى ظهرها لحن أجمل أغنياته خاصة أغنية "حبيب العمر". وقد توقع البعض أن تتحول هذه العوامة إلى متحف لكن ورثته لم يهتموا بصيانتها والحفاظ عليها بعد وفاته، حتى أنهم امتنعوا عن تسديد الرسوم المطلوبة عليها لأجهزة الدولة، فتحولت إلى كهف مهجور، مما اضطر شرطة المسطحات المائية إلى سحبها من الماء نهائيا وتفكيكها وبيعها خردة في العام 1982.
وامتلك الفنان محمد الكحلاوي في أربعينيات القرن الماضي عوامة اعتاد أن يسهر فيها مع جمع من الفنانين والصحفيين والأصدقاء، وفي بعض الأحيان كان ضيوفها من المغنين والراقصات، وكان ذلك قبل أن يصبح الكحلاوي "مداح النبي"، وفي عوامة الكحلاوي وسهراتها خرج مشروعا فيلميه "كابتن مصر" و"أحكام العرب".
وكانت العوامة رقم 75 ملكا للفنان نجيب الريحاني، لكنها غرقت بعد أن رفض الورثة إصلاحها، أما العوامة رقم 66 فكانت تملكها الفنانة منيرة المهدية، وقد اشتهرت هذه العوامة بأنها كانت مقصد كبار المسئولين ورؤساء الحكومات في عهود مضت، وقد قالت في تصريحات لها قبل وفاتها: "لو فكر صحفي أن يسترق السمع إلى صالوني في تلك الفترة لاستطاع معرفة أخبار البلد، ولكن أحدا لم يفكر يومها أن مجلس الوزراء ينعقد في عوامتي"، وتقول منيرة المهدية في مذكراتها إن رئيس الوزراء آنذاك حسين رشدي باشا - الذي شكل أربع وزارات متعاقبة بدءا من 5 أبريل في العام 1914 وانتهاء بتاريخ 19 مايو في العام 1919- كان يجتمع مع وزرائه في العوامة ويتخذون القرارات الخاصة بشئون البلاد، "وكان يقول لي رشدي باشا أنا لما باجي هنا بالي بيروق"، وقال لمنيرة المهدية "إنك تستطيعين الحصول على الاستقلال لمصر" بأغنية من أغنياتها، ويقال إنه على أنغام أغنية "يا حبيبي تعالى بالعجل" كان الوزراء والساسة يناقشون تطورات الوضع في مصر المحروسة، وبلغ عشق منيرة المهدية لعوامتها أنها في العام 1963 باعت فيلتها بمنطقة مصر الجديدة بمبلغ 6 آلاف جنيه، وسيارتها، وجاءت لتعيش في العوامة، لكنها تركت الماء وعادت إلى البر مرة أخرى بعد أن غرقت عوامة جيرانها.وقضى الملك فاروق سهرات صاخبة مع عشرات الحسناوات على ظهر إحدى العوامات، بل إن إسماعيل صدقي رئيس الوزراء الداهية الذي أبطل دستور العام 1923 وعرف بالسفاح، كانت له حكاية وهو في سن الأربعين مع العوامات، ففي العام 1915 قدم صدقي - وكان وقتها وزيرا للأوقاف - استقالته نتيجة فضيحة أخلاقية، حيث وصلت إلى الشرطة بلاغات تفيد بأن العوامات على النيل، وخاصة عوامة وزير الأوقاف يحدث بها ما يشين، فاقتحم رجال الشرطة العوامة ليجدوه في وضع مريب مع فتاة شابة كانت ابنة أحد زملائه الوزراء والتي انتحرت بالسم بعد إطلاق سراحها من القسم، ووصل الموضوع إلى السلطان حسين الذي استدعى صدقي وعنفه ليستقيل الأخير نتيجة هذه الفضيحة، وهنا يرن في آذاننا تعريف نجيب محفوظ للعوامات بأنها "الحبال والفناطيس والزرع والطعام والمرأة".
ولم تغب العوامة، والحال على ما نقول عن ذهن شاعر العامية المصرية أحمد فؤاد نجم إذ يقول في قصيدته "جيفارا مات" التي لحنها وغناها الشيخ إمام عيسى: "يا بتوع نضال آخر زمن فـ العوامات، ما رأيكم دام عزكم، جيفارا مات".
الأضواء المتلألئة من العوامات الرابضة على صفحة مياه النيل تتحدى الظلام المحيط بها، وتحكي عن قصص لا تنتهي ومغامرات تفوق حدود الخيال لأبطال هذا العالم الخاص، والملف الذي فتحته قصة سقوط ما أطلقت عليه أجهزة الأمن المصرية اسم التنظيم المتهم بازدراء الأديان، بعد مداهمة حفل لعدد من الشباب على ظهر العوامة "ناريمان كوين" - التي تملكها عارضة أزياء معتزلة – أكثر إثارة وغموضا مما اعتقده كثيرون، ففي هذه العوامة التي تستقر أمام فندق "ماريوت" في حي الزمالك ظهر في مايو العام 2000 شاب ألماني تصنفه مباحث الآداب على أنه واحد من تنظيم "عبدة الشيطان"، ثم جاء مايو العام 2001 ليشهد إعلان أجهزة الأمن أنها ضبطت تنظيما لمتهمين بالمثلية دأب أفراده على اللقاء في هذه العوامة كل يوم خميس، غير أنه جرى لاحقا تبرئة ساحة كثير من هؤلاء المتهمين.
عوامات النيل تتبع ثماني جهات مختلفة: إدارة الملاحة، الوحدة المحلية بالجيزة، إدارة حماية النيل، شرطة المسطحات المائية، وزارة الري، أملاك الدولة، الصرف الصحي، وزارة السياحة، وهكذا تفرق دمها بين القبائل.
يتعين أن نشير إلى أن هناك نوعين من العوامات: نوع ثابت لا يتحرك من مكانه، وهو عادة يكون من الخشب مكون من طابقين ومهيأ للسكن تماما، النوع الثاني من العوامات يحتوي على محرك ينتقل بها من مكان إلى مكان، وكان أصحاب مثل هذا النوع من العوامات يتجهون بها إلى الشواطئ خلال فصل الصيف خاصة مصيف رأس البر، وكان هذا النوع يعرف باسم "الدهبية"، العوامات التي كانت مسرح غناء شريفة فاضل وألحان فريد الأطرش ونكات نجيب الريحاني، طالتها الآن يد العشوائيات أو امتلكها خليجيون ومحاطة بالسرية والكتمان، في حين لجأ البعض إلى تأجيرها على طريقة البنسيون أو منحها لطالبي السهرات الخاصة بعيدا عن العيون الفضولية والمتطفلة، لتبدأ في تلك الليالي حكايات أخرى عن السرقة والشذوذ والقتل، هنا فقط يتذكر الجميع - من رجال الشرطة إلى عامة الناس - أن العوامات مازالت تطفو على سطح نهر النيل وترسو بكل ما تحمله من أسرار وحكايات مذهلة تتحدى الزمن، والشائعات أيضا.

البحث عن الحقيقة في ظل تواطؤ الذهنية الشعبية

صورة أدهم وأغراضه في متحف الشرطة
أبو العلا الذي عرف في الحكاية الشعبية بـ (بدران) يتأمل صورة أدهم في ثمانينيات القرن المنصرم




أدهم الشرقاوي قتيلاً
عبد الحليم الشرقاوي والد أدهم(اللطائف) تنشر خبر اغتيال الشقي أدهم الشرقاوي أدهم الشرقاوي الذي مات عن 23
سنة
أبو العلا الذي عرف باسم بدران






البحث عن الحقيقة في ظل تواطؤ الذهنية الشعبية:
أدهم الشرقاوي بين الحقيقة والأسطورة


الذهنية الشعبية تتواطأ بإصرار على تدشين بعض الشخصيات بصورة معينة تجافي الحقيقة، فشجر الدر التي عرفت باسم شجرة الدر ليست بهذا السوء الذي تفتق عن ذهنية تعيد تشكيل البشر حسب هواها، وصلاح الدين الأيوبي لم بملاك طاهر كما تم تصديره بصرف النظر عن أعماله العظيمة التي لا ينكرها أحد، سواء كان مستسلمًا للصورة المعلبة أو كان باحثًا عن الحقيقة في تكوين الشخصية، ومن هؤلاء الذين صنعت لهم الذائقة الشعبية عن قصد صورة تجافي الحقيقة، وفى عدد من مجلة (اللطائف) صدر في العام 1921، يمكننا الوقوف على ملامح تلك الشخصية التي تحولت بقدرة قادر إلى بطل شعبي، والصورة – حسب اللطائف – لمجرم لا علاقة له بروبن هود الذي دشنته الذهنية الشعبية وكتَّاب الملاحم .


وأدهم ينتمي لأسرة طيبة وكبيرة ومعروفة، حصل على قدر من التعليم، وبمجرد وصف عمه بأنه عبد المجيد (بك) الشرقاوي عمدة قرية (زبيدة) بإيتاي البارود، يمكننا أن نكون فكرة عن عائلته ووضعها الاجتماعي وظروفها الاقتصادية، وهو ما يشير إلى إن والد أدهم عبد الحليم الشرقاوى كان من أعيان محافظة البحيرة، لكن الأب يغيب عن كل الروايات التي تعاطت مع سيرة أدهم عند محطة مبكرة جدًا، فآخر ما تذكره الروزايات عن عبد الحليم الشرقاوي إنه أخرج ابنه من المدارس، بعدها لا نعرف هل مات الرجل أم واصل حياته إلى وقت ما، فتنقطع سيرة الرجل قبل ضلوع أدهم بالجريمة في العام ١٩١٧، قبل أن يستقبل عامه العشرين.
وعمومًا فإن صمت صحف تلك الفترة عن الإشارة إلى أبيه بخير أو بشر يوحى بأن فى الأمر سرا حجب عن الناس أو هو قد يوحى بأن العم عبد الحليم ومكانته حجر عليه للسفه، أو ساعد على تحطيمه بالمكر والدهاء وبالتقرب من السلطات لتؤول إليه العمدية، كما كان يحدث وقتها كثيرا بين الأقارب وأصحاب العزوة والحظوة في القرى، ونحن في مجتمعنا أن عما يشهد ضد ابن أخيه حتى ولو كان قاتلاً بالفعل إلا إذا كان القتيل من لحمه ودمه وهذا ما لا تذكره الجرائد، وعلى أكثر المألوف نجد العم يعفى من الشهادة أو نراه يكذب، مدعيا الجهل بما حدث، أما وقد تقدم العم لإثبات الجرم ضد ابن أخيه فإن الأمر يتعلق بثروة أو وضع اجتماعي رفيع، فإن شهادته ضد ابن أخيه تعني بالضرورة الرغبة في إزاحته كلية، وما دامت هذه الرغبة قائمة، فإن الأمر ينطوي على الشك في أن العم سلب ثروة أخيه أو انتزع العمدية منه بالعمالة لدى النظام والاحتلال معا، وعلى هذا النحو فإن ظاهر الأمر يوحي بأنه كان هناك صراع ضارٍ وعنيف على السلطة – حول منصب العمدية - فى قرية زبيدة، وتذكر (اللطائف) أن أدهم الشرقاوي بعد هربه من الليمان واختبائه في زمام قريته، كان يشيع الإرهاب في المنطقة، ليثبت للسلطات أن عمه (العمدة) عاجز عن حفظ الأمن، فيتم فصله من العمدية، ومع ذلك فقد تمسكت السلطات بعبد المجيد عمدة لناحيته، مما يعني أن العم كان مسنودا، ولم تؤثر في موقعه كل الجرائم التي ارتكبها أدهم، ولم ينجح العم في إرساء الأمن وحماية الناس، غير أن عمه بقى في منصبه، وظل موضع ثقة للسلطات.
الصفحة الأولى من اللطائف فالعام 1921 وفى أعلاها أدهم الشرقاوي وفى أسفلها الشاويش محمد خليل والأونباشي والعسكري الذين قتلوا أدهم متنكرين.

وطول الوقت كانت هناك محاولات للربط بين شخصية أدهم، وروبين هود في التراث البريطاني، ذلك اللص الشريف الذي يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء، فيصدر البعض إلى الذهنية الشعبية صورة رديفه في مصر، هو ذلك الثائر الشعبي على الطغيان وذيوله وعملائه في أحد أقاليم الدلتا، مما يعطي دلالة بمؤازرة أدهم للمظلومين والمقهورين من الواقعين تحت وطأة الظلم، وعلى هذا النحو استقرت أسطورة أدهم الشرقاوي في الوجدان الشعبي، وقد تحولت سيرته لمادة درامية ساقها وصاغها الضمير الشعبي ووثق لها لتشكل في النهاية إغواء سرديًا لكتاب الموال والرواة الشعبيين وكتاب الدراما أيضا كما أسلفت، بما تحقق لها من تراكمات وتضاعيف وإضافات بفعل توارث الحكاية بين الأجيال، فماذا عن أدهم الشرقاوي وفق الرؤية الرسمية؟، نحن نجد إجابة واضحة وقاطعة عن هذا السؤال بمجلة (اللطائف) في العام ١٩٢١، والتى نشرت إثر مقتل أدهم الشرقاوي تقول بالحرف: "المجرم الأكبر الشقي الطاغية أدهم الشرقاوي بعد أن طارده رجال الضبط والبوليس واصطادوه فأراحوا البلد من شره وجرائمه"، وتستطرد اللطائف: "ولد أدهم عبد الحليم الشرقاوى نحو عام ١٨٩٨ ولقى مصرعه في أكتوبر ١٩٢١، فكأنه مات عن ٢٣ عاما بعد أن دوخ الحكومة المصرية نحو ثلاث سنوات، ولد بناحية زبيدة من بلاد مركز إيتاى البارود، وألحقه أبوه بالمدارس الابتدائية حتى أتم دروس السنة الرابعة، ثم أخرجه أبوه من المدارس حين لمس عدم استعداده لتلقى العلوم، ولوحظت عليه العدوانية، فكان يعتدي على كل من يمسه بأبسط شيء"، - وأضافت (اللطائف): "وفي ١٩١٧ ارتكب حادثة قتل وهو في سن التاسعة عشرة، وكان عمه عبد المجيد بك الشرقاوي عمدة زبيدة أحد شهود الإثبات، وفى أثناء محاكمته أمام محكمة الجنايات سمع أدهم أحد الشهود يشهد ضده فهجم على أحد الحراس بقصد نزع سنجته ليطعن بها الشاهد، وحكمت المحكمة على أدهم الشرقاوي بالسجن سبع سنوات مع الأشغال الشاقة، فأرسل إلى ليمان طرة، وفى الليمان ارتكب أدهم الشرقاوي جريمة قتل أخرى، فقد تعرف هناك على أحد السجناء وأدرك من كلام هذا السجين أنه القاتل الحقيقي لأحد أعمامه، وأنه لم يقبض عليه في هذه الجريمة التي لم يقبض على أحد فيها لأن مرتكبها ظل مجهولا، وإنما قبض عليه في جريمة أخرى، ولما عرف أدهم الشرقاوي هذه الحقيقة غافل السجين ذات يوم وضربه على رأسه بالأداة التي يقطعون بها الأحجار فقتله، وهكذا حُكِم على أدهم الشرقاوي بالأشغال الشاقة المؤبدة، غير أنه هرب من السجن في اضطرابات ١٩١٩، واختفى في مكان ما في بلده، وهناك انضم إليه عدد كبير من الأشقياء، فكون منهم عصابة، وأخذ يرتكب الجرائم العديدة، وكان همه الوحيد أن يقتل عمه عبد المجيد بك الشرقاوي، عمدة زبيدة، لأنه كان أهم شاهد في قضيته الأولى، فكان يتربص به في غيطان الذرة، ولكنه عجز عن قتله لأن عمه كان شديد الحذر"، وتستدرك (اللطائف): "إن أدهم الشرقاوي ظل يرتكب الحوادث المخلة بالأمن من قتل وسطو ونهب في ناحية زبيدة، حتى يكون ذلك مدعاة رفت عمه من العمدية فلم يفلح أيضا، وعندما كبرت عصابته كان يتم استئجاره لارتكاب جرائم القتل، فقتل الكثيرين، وكان منهم خفير نظامي بـ (عزبة خلجان سلامة) وشقيقه الشيخ أبو مندور، وهو من أعيان المركز وآخرون، ثم أخذ يهدد العمد والأعيان ليبتز منهم مبالغ طائلة مقابل المحافظة على أرواحهم، فكانوا ينفذون ما يطلب خوفا من بطشه، وأخيرا هاجم أدهم الشرقاوي مع أحد أعوانه - وكانا ملثمين - الشيخ حسين السيوي، وهو من أعيان ناحية (كفر خليفة)، وكان أدهم الشرقاوي يطارده، وهاجمه بينما كان جالسا مع خمسة من أصدقائه أمام منزله يتحادثون ويلعبون الطاولة، وكان ذلك في الساعة العاشرة صباحا، أي في رابعة النهار، وصرخ فيهم أدهم الشرقاوي وأطلق رصاصة على الشيخ حسين السيوي فأرداه قتيلا، فدب الرعب في قلوب الأهالي، وكان أدهم الشرقاوي يسطو على التجار على قارعة الطريق نهارا ويسلب محافظهم وما يحملون، وعندما شاع الرعب بين الناس عززت الحكومة قوات الأمن فى المنطقة، وأكثرت من دورياتها، وتخاصم أدهم الشرقاوي مع أحد أقربائه وهو خفير اسمه محمود أبو العلا، فوشى به الخفير لدى البوليس، ودلهم على مكانه، وحين شددت الحكومة النكير على أدهم الشرقاوي وجدّت في مطاردته تركه أعوانه خوفا على حياتهم، أما أدهم فلم يخف بل ظل ينتقل بين مراكز إيتاى البارود وكوم حمادة والدلنجات، وأخيرا أرسل ملاحظ بوليس (التوفيقية) أحد الجاويشية،ه ويدعى محمد خليل، ومعه أومباشى سوداني، وأحد الخفراء، فكمنوا له في غيط ذرة بزمام عزبة (جلال)، وكان أدهم الشرقاوي في حقل مجاور من حقول القطن يتأهب لتناول غذائه الذي جاءته به امرأة عجوز، وكان يخفر أحد الخفراء النظاميين، ولما أحس أدهم الشرقاوي بحركة داخل غيط الذرة المجاورة أطلق عدة طلقات من بندقيته (الماروز) دفاعا عن النفس، ولكن الجاويش محمد خليل أطلق عليه رصاصتين فسقط قتيلا قبل أن يتناول شيئا من طعامه، ووجدوا معه نحو مائة طلقة وخنجرا"، وتصف (اللطائف) أدهم بإنه "لم يكن قوي العضلات بدرجة تمكنه من ارتكاب هذه الجرائم، ولكنه من أجرأ اللصوص والقتلة، فلا يبالى بالحكومة ولا ببطشها".
والحقيقة أن أدهم كان وفقًا لكل ما ورد عنه داهية كبرى، يستخدم العقل في الجريمة، أما تكوينه البدني فكان ضعيفًا جدًا، وعلى قدر من حلاوة الوجه يؤهله للتنكر، ومما ورد عن أدهم وما رأينه في الصور يوضح أنه كان أجروديًا، أي لم ينبت الشعر في وجهه!!.

الأربعاء، 7 أبريل 2010

السادات الموهوب







ممثل بارع وكاتب محترف:
السادات الموهوب


البعض لا يعرف أن الرئيس الراحل أنور السادات كان يمتلك موهبة كبيرة في التمثيل، التمثيل بمعناه الحقيقي الذي مارسه حتى في الحياة، فلعب السادات دورا مهما من مع الراقصة الأشهر سياسيا حكمت فهمي ضد الإنجليز لمصلحة الألمان، وبالفعل تمت محاكمته في أكتوبر من العام 1942، ويرجع ذلك لعلاقته بجاسوسين ألمانيين هما "إبلر" و"ساندي"، وبعدها طُرِدَ السادات من الجيش وسجن، إلى أن تمكن من الهرب والاختفاء، وعمل أثناء فترة الهروب الكبير في مهنٍ مختلفة، أعانه على أدائها موهبة التمثيل، فظهر حمَّالا وسائقا، وكان بارعا في أداء كل شخصية، متفننا في اختيار الملابس والإكسسوارات اللازمة، مبدعا لطريقة الحديث بلسان الشخصية التي يؤديها على مسرح الحياة أينما ذهب، ومهما كان الدور الذي يؤديه بعيدا عن شخصيته الحقيقية التي فطر عليها، ليلعب بعد ذلك دورا وطنيا في العام 1946، حين شارك في اغتيال أمين عثمان وزير المالية في الحكومة الوفدية، والذي كان يعد من أكبر المؤيدين للمستعمر البريطاني، فيصير السادات بعدها ملء السمع والبصر، سيما في الإعلام، وقضى في سجن القلعة 30 شهرا، نصفها اعتقل في الحبس الانفرادي بزنزانة تحمل الرقم 54، بعدها برأت المحكمة ساحته في العام 1948. وقد انتهز فرصة الاعتقال الطويلة في الاهتمام بميوله الأدبية، والكثير ممن اطلعوا على سيرته يعرفون إنه أحد الكتبة الكبار، كما له علاقة بالصحافة ثابتة وموثقة، وقليلون يعلمون أن موهبة السادات في التمثيل كانت هي الدافع والمعاون له في تقليد أصدقائه وقادته وبعض الفنانين الكبار، وقد منحه الله وفرة في خفة الظل، حتى إنه أصدر في المعتقل صحيفة تحت عنوان "الهنكرة والمنكرة"، الأكثر من ذلك إنه بمعاونة رفقائه كان قد أسس في المعتقل إذاعة – بدون بث – لها برامجها اليومية التي يعلن عنها تشمل عددا من البرامج المختلفة منها على سبيل المثال برنامج للأطفال – رغم عدم وجود أطفال في المعتقل بالطبع – باسم برنامج "بابا أنور"، وغيره من البرامج ذات الطابع الساخر التي ذكرها السادات نفسه في كتاب بعنوان "30 شهرا في السجن"، وبالفعل كان السادات شخصية ثرية متعددة الجوانب والمواهب، أهمها التمثيل والكتابة، فعمل صحفيا على دراية بأبجدية العمل الصحفي، فعمل على سبيل المثال بمجلات عدة، منها "الهلال" والمصور"، وخلالها واتته الفرصة لنشر تفاصيل فترة اعتقاله، وذكراياته في سجن القلعة، فضلا عن العديد من القصص القصيرة التي يجيدها ويعشقها، ثم عاد السادات إلى الخدمة العسكرية في 15 يناير من العام 1950 بتدخل من الملك شخصيا، وكان وقتها برتبة يوزباشي، قصة العودة للخدمة يرويها السادات في كتابه الأشهر "البحث عن الذات"، فيقول: بعد حريق القاهرة اتصلت بيوسف رشاد - صديق فاروق، ورئيس جهاز المعلومات بالسراي - ووجدته يأخذ كل ما أقوله أمرا مسلما، وإذن الطريق مفتوحٌ لتضليل الملك وتخديره، وكنت أقدم له معلومات خاطئة، وعندما يعرض علي منشورات الضباط الأحرار كنت أوهمه بأنها من خيال ضابط معروف بحب التظاهر، وعندما كانت تصل إليه بعض الحقائق كنت أعمل على تصويرها بأنها أكاذيب ومبالغات، وكنت أسعى للتعرف على أخبار الملك وخططه ونواياه، وعرفت بشعوره أنه لم يعد له مكان في مصر".
وانضم إلى تنظيم الضباط الأحرار، ومن فرط موهبته في التمثيل والتقمص لم ينته كما انتهى غيره من الأحرار حين التهمت الثورة أبناءها كالقطط.وكم حلم السادات في شبابه بأن يكون ممثلا، ولم يدر بخلد الشاب أنه سيكون بطلا على مسرح الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، وإنه سيصير بطلا عالميا يختار ضمن أعظم مائة في تاريخ البشرية، ولأنه كان موهوبا فكم ظهر عليما بطرائق التعامل مع الكاميرات، فكانت له أجمل الصور وأكثرها تعبيرية بين رؤساء مصر، وربما قبل أن يحكم مصر، وهو أيضا ملك في استخدام تعبيرات الوجه، في حين يخاطب الشعب ترتسم آيات الحب على وجهه، وحين يتوعد خصومه نرى الشراسة واضحة في عينيه وحركة فمه، سيما حين قال على سبيل المثال: "الديمقراطية لها أنياب"، ولأنه مؤمن بالفن، ويعرف أن الفن الجيد هو الفن الذي يلتزم فيه كل مشارك بدوره، فحين يضع السادات سيناريو ما ويفاجأ بمن يخرج عن الناس ويحاول العبث بمشهد ما، يستشاط السادات غضبا/ فهو يريد أن يسير السيناريو وفق ما رسمه هو، وأن تظل المشاهد على ترتيبه لها، ولا يقبل الخروج عن الحوار الذي يكتبه هو بالحرف، ومن تلك المشهد التي حاول البعض الخروج عن النص خلالها هذا المشهد الذي جمعه بالطالب عبد المنعم أبو الفتوح نائب رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة في واقعةٍ مشهورة حين صاح فيه: "إنني عودتك على الصراحة وليس على الوقاحة، ومشهد آخر جمعه بطالب إعلام حمدين صباحي الذي دخل على الخط أثناء حديث السادات إلى طلبة جامعة القاهرة، حيث أخذ حمدين يتغزل في عبد الناصر، وحكم عبد الناصر، وبطولة عبد الناصر، حتى اهتاج السادات، وظل يصرخ في وجه حمدين: "عيب"، عيب".
السادات الموهوب في التمثيل والكتابة هو من وقف أمام مجلس الأمة يستجمع طاقاته الإبداعية وحنكته السياسية ودهاءه الشخصي، فور توليه الرئاسة، وقال: "لقد جئت إليكم على طريق عبد الناصر وأعتبر ترشيحكم لي بتولي رئاسة الجمهورية، هو توجيه بالسير على طريق عبد الناصر، وإذا أدت جماهير شعبنا رأيها في الاستفتاء العام – بنعم - فإنني سوف أعتبر ذلك أمرا بالسير على طريق جمال عبد الناصر، الذي أعلن أمامكم بشرف، أنني سأواصل السير فيه على أية حال، ومن أي موقع"، وفي موضع آخر من الحديث يقول: "لقد وضعت لتفكيري كله قاعدةً واحدة، هي أن أبدأ كل تصرفٍ بسؤال محدد هو: ماذا كان يطلب منا لو أنه كان م زال بيننا؟، وكنت على ضوء معرفتي به، رفقة ثلاثين سنة، وزمالة نضال ومعركة وراء معركة، وفهم صديقٍ لصديق"، وفي أول خطاب له بعد انتخابه رئيسا، قال: "لقد تلقيت أمركم وادعوا الله أن يكون أدائي للمهمة التي كلفتموني بها على نحو يرضاه شعبنا، وترضاه أمتنا، ويرضاه المثل الأعلى الذي وضعه القائد الخالد عبد الناصر، وأعطاه كل شيء من الحياة إلى الموت".
والسينما كانت ركيزة في حياة السادات، فكان في كل بيت من بيوته قاعة عرض، ويقال أن قوائم عروض السينما كانت تأتيه بشكل دوري، وإنه كان يشاهد الأفلام حتى قبل عرضها على الرقابة، والمعروف أن السادات هو صاحب فكرة عيد الفن التي ماتت برحيله، وداوم على تكريم عددا من الممثلين سنويا، في مهرجان كبيرة ينقله التليفزيون.
الحلة العسكرية التي كان يرتديها السادات، والتي تصممها أرقى بيوت ا؟لأزياء الإنجليزية المتخصصة في هذا النوع من الملابس، والعصا الماريشالية المصنوعة من الذهب التي كان يتأبطها السادات، والبايب الكلاسيكي الضخم، كلها أردية والإكسسوارات تشي بأن صاحبها فنان ومبدع كبير، فظلا عن قوامه الممشوق، ولذا تم اختياره ضمن أكثر الناس أناقة في العالم.