الأحد، 27 يونيو 2010

عفوًا.. دعنا نعتقلك بعض الوقت














في أكثر من ستة عقود:
(ملوك) السجن و(عجينُه)


ما نسمعه اليوم عن مارينا طرة، والفخفخة التي يعيش فيها زبانية مبارك من لصوص الأوطان، والتي لا يراها أي سجين في المحروسة حتى لو كانت تهمته سرقة رغيف يسد به رمقه في سنوات الجوع الطويلة إبان حكم الطاغية آخر الملوك الجنرالات، كانت الدافع لهذا لكتابة هذه السطور، فلندرك أولاً أن السجون في مصر تصنف المساجين إلى "ملوك" و"عجين"، لا من حيث التصنيف الجنائي لما ارتكبوه من جرائم، والدليل أن السفاح حبيب العادلي يعيش الآن في محبسه المكيف بعيدًا عن عدسات الكاميرًا حفاظًا على صورة جزار قتل الأبرياء في وضح النهار بعد 13 سنة تابع انتهاك حرمة البشر وسحلهم وسحقهم بتلذذ يليق بمريض سيكوباتي، وزعيمه المخلوع - الذي آهان المصريين خلال ثلاثين عامًا أسس فيها لدولة بوليسية، انتهكت فيها الأعراض في أقسام الشرطة ومقرات أمن النظام المعروفة بأمن الدولة - يعيش في مشفى سياحي بمدينة شرم الشيخ التي يعتقد مبارك إنها مسقط رأسه وإرثه من أبيه، كما يعيش رجالات نظامه في أبهة بعد تحويل عنابر سجن المزرعة لمنتجع يضم الفقي وجرانة وعز ونظيف وغيرهم من الأجلاف الذين أذاقوا المصريين المرار، ونهبوا أموال الشعب المكلوم، كلهم يعيشون في السجن ملوكًا فوق العادة، للسجن في الحروسة دومًا (ملوكه) و(عجينه)، والعجين تسميه جاء بها الكاتب الكبير وحيد حامد تعبيرًا عن القاعدة العريضة من المساجين الذين لا يشعرون بأي من مظاهر الحياة داخل السجون المصرية، بل بعضهم يتحمل مسئولية خدمة ملوك السجن وباشاواته، الذين دخلوا السجن كبارًا وظلوا طوال فترة عقوبتهم هكذا، لهم ما يريدون، وبعضهم كانوا في السجن مثار حسد لغيرهم من الأحرار خارج أسوار السجون.
في البداية أوضح مدى الصعوبة في إتمام تحقيق صحفي موضوع يقتضي اختراق جدران السجون، خاصة في بلد يتحفظ في مثل هذه الموضوعات، والخارج من السجن عادة ما يرغب في التكتم على تفاصيل حياته داخل السجن، أولا لأنها ذكريات غير طيبة، وثانيا حتى لا يعود إليه ثانية، ففي كتاب صدر بعنوان "السجين" يكشف الكاتب الصحفي محمد منير أسرارًا مثيرة حول تاريخ المعتقلين السياسيين المعاصرين في مصر، وأسباب اعتقالهم أو سجنهم، والتنظيمات السرية أو العلنية التي كانوا ينتمون إليها، ومدى تناقضهم مع السلطة منذ بداية ثورة يوليو العام 1952، وقد نجح منير في استدراج أقطاب العمل السياسي ورموز الفكر والأدب للحظات صدق مع النفس باحوا فيها بالكثير من التفاصيل الهامة عن تجاربهم في السجون والمعتقلات، وكشفوا العديد من الأسرار حول المسكوت عنه في علاقة المفكرين بالسلطة، ونقدر الجهد الذي بذله الكاتب في إنجاز هذا الكتاب، فلعلنا نلاحظ أن قليلا من الكتاب الصحفيين ينجحون في التنقيب عن أسرار عالم السجون والمعتقلات خاصة السياسية، من خلال أبطال هذا العالم أنفسهم بسبب تعذر هذا الأمر في كثير من الأحيان وتردد كثيرين في الكلام أو النبش في ذكريات الماضي كما أكدنا سلفًا، إما بحثا عن الهدوء، وإما تفاديًا للاصطدام بالسلطات أو التسبب في أي حرج لشخصيات أخرى يرد ذكرها في تلك الذكريات.
قد يظن البعض أن سجن رجال الأعمال لا يختلف كثيرًا عن سجن باقي المجرمين أو المتهمين من أبناء الشعب بحجة أن الكل أمام القانون، قد يعتقد أن سجن مصطفي البليدي، وحسام أبو الفتوح، وأحمد الريان، ورجب السويركي، وحامد محمود، وماهر الجندي، ومحمد الوكيل، كان صورة طبق الأصل من سجن وحيد مهران، ورؤوف علوان، أو حتى سجن زكي قدرة، أو عادل إمام في فيلم حب في الزنزانة، قد يظن البعض أن سجن رجال الأعمال ذل ومهانة وقلة كرامة، وأن توفيق عبده اسماعيل كان ينام في زنزانة متر في متر، وأن مرتضي منصور، ويوسف عبد الرحمن كانوا ينامون علي البرش، الحقيقة أن سجن رجال الأعمال والكبار من أصحاب الحظوة دائمًا يختلف كليًا عن سجن الغلابة، الاختلاف كبير، مثل اختلاف ضاحية الزمالك عن حي منشية ناصر، سجن رجال الأعمال هو سجن الملوك، وهم بحق نجوم وملوك السجون، سجنهم فرفشة ونعنشة وسحابة صيف، ولكن بدلاً من قضائها في مارينا أو مارقيا أو ماربيلا، يقضيها الملياردير رجل الأعمال في فنادق خلف الأسوار، والحق تمتلأ السجون المصرية برجال أعمال لا حصر لهم، بالإضافة إلي فئات أخرى نطلق عليها معشر الصحفيين "علية القوم" من أصحاب المليارات والطائرات الخاصة والقصور والقرى السياحية، ناهيك عن المناصب المرموقة التي احتلوها في غفلة من الزمان، تؤكد الوقائع أن سجن ليمان طره ضم مشاهير الفن والرياضة والثقافة، سجن بين جدران لواءات وقضاه ومحافظون ومستشارون ورجال أعمال، منهم من خرج على قدميه، ومنهم من خرج على ظهرة، دخل ليمان طره رجل الأعمال الشهير ووزير السياحة الأسبق توفيق عبده إسماعيل، والمحامي العام ومحافظ الغربية والجيزة الأسبق المستشار ماهر الجندي، ووزير المالية الأسبق محيي الدين الغريب، وعاش بين جدران ليمان طره مطرب الشباب المتهرب من التجنيد والمزور في محررات رسمية تامر حسني، والنائب الأشهر خالد محمود، وأحمد الريان صاحب أشهر قضية توظيف أموال في مصر والعالم العربي، أما مرتضي منصور، ومحمود الوكيل، وأيمن نور، فكانوا أشهر من النار على علم في سجن ليمان طره، ورجال الأعمال وكبار المسئولين في ليمان طره لهم معاملة خاصة، ينعمون بحظوة كبيرة، وكأن التيجان على رؤسهم.







خالد محمود
النائب خالد محمود، أحد مشاهير رجال الأعمال، قام بترميم وتجديد دورات المياه بسجن ليمان طره حتى تحولت هذه الدورات من مكان للأمراض والأوبئة إلى واحة تبعث على الراحة، وعلى نفقته الخاصة، أيضًا قام بإحلال وتجديد مستشفى السجن حتى اقترب من مستشفى "مكيفلاند" بأمريكا أو "دار الفؤاد" الذي يمتلكه وزير الصحة الأسبق في مصر، ورغم ذلك يقال لنا أن مشفى طرة لا يصلح لاستقدام المخلوع.
محمد فؤاد المهندس
أما محمد نجل الفنان الراحل فؤاد المهندس، فقد فاز بكل تركة والده التي جمعها طيلة عمله لأكثر من 60 عامًا في الفن، وقام على الفور بعد حصوله علي الأموال بإنشاء ملعب للتنس داخل سجن ليمان طرة ليمارس هوايته القديمة التي تعلمها من أصدقاء والده أمثال الفنانين الراحلين شكري سرحان، وفريد شوقي، وتوفيق الدقن، ومن الأحياء الفنان العالمي عمر الشريف، وبذلك اعتبر محمد فؤاد المهندس ملاعب التنس بين أسوار السجن بمثابة صدقه جارية علي روح والده.
رجب سيد السويركي
من ملوك السجن رجب سيد السويركي صاحب محلات "التوحيد والنور" المتأسلمة، والذي دخل السجن في قضية تزوير بمحررات رسمية حتى يتمكن من عقد قرانه الخامس على امرأة وهي لازالت في العدة، عندها أبلغت عنه إحدى زوجاته، والتي استطاعت استخراج وثيقة طلاق تؤكد أن الزوجة الجديدة لا زالت تقضي شهور العدة، وبالفعل أثبتت التحريات صحة الأوراق، وقامت بإلقاء القبض عليه وإيداعه السجن بعد اتهامه بالتزوير في أوراق رسمية، وتابع أعمال شركاته أولاً بأول تمامًا كما يفعل الآن أحمد عز الذي يتربح كل يوم من أعماله الاحتكارية رغم وجوده بطرة، وكانت التقارير والصادرات والواردات والصفقات والأرباح والخسائر تأتي إلى السويركي وكأنه يعيش داخل مركز تجاري أو في الغرفة التجارية بالقاهرة أو اتحاد الصناعات، إلا أنه كما تقول إحدى المصادر المقربة جدًا منه – لم يتخل إبان سجنه عن عشقه الكبير للجمبري بالفريك والمكرونة بالبشامل وجميع الأطعمة المقوية جنسيًا، والحق يقال، فالسويركي رجل كريم حتى أطلقوا عليه داخل السجن "حاتم الطأش"، فلم يثبت أنه أكل بمفرده ولو لمرة واحدة، وذلك لأن ابنه كان يزوره يوميًا – فلا مواعيد لزيارت ملوك السجن - ويأتي له بما لذ وطاب من الطعام والفاكهة، ودائمًا ما كان يدعو محمد الوكيل - رئيس قطاع الأخبار الأسبق - ليتناول معه الأكلات الدسمة، وبعد خروج محمد الوكيل بدأ السويركي يجالس أحمد الريان - صاحب أكبر قضية توظيف أموال في مصر - حيث تقترب ميولهما التجارية والاقتصادية ودراسة البورصة والأسواق، كما تقترب الميول الغذائية، فكلاهما يحب الأكلات المقوية للقلب والأعصاب علي أمل الخروج والزواج مرارًا وتكرارًا، والتمتع بزينة الحياة الدنيا.
المستشار ماهر الجندي
ولا ننسي في معرض حديثنا عن ملوك السجن المستشار ماهر الجندي والذي خرج من السجن بعفو رئاسي لقضائه نصف المدة، فقد كان الرجل محام عام، ومحافظًا للغربية والجيزة، وهو المستشار الوحيد الذي لا زال مصرًا علي براءته، وأن قضية الرشوة التي دخل بسببها السجن كانت ملفقة، أو على الأرجح بفعل فاعل، ومع ذلك صبر الرجل، واحتسب كل ذلك عند الله إلى أن جاء الفرج وخرج بعد انقضاء نصف المدة على حد قوله لوسائل الإعلام ومازال يقول، وبعيدًًا عن تلك القضية فالجندي له أيام عمله في القضاء قصصًا وروايات يحكيها بعض المعتقلين المشاهير عن طغيانه في التحقيقات، والمثير في سجن ماهر الجندي أنه ظل يؤمن بالبراءة والعدالة ونزاهة القضاء حتى آخر لحظة، والدليل أنه اشتهر بين المشاهير في السجن بارتداء الروب الخاص به، والذي يشبه إلى حد كبير وشاح القضاة وروب المحامين، أي أنه كان يمزج في زيه بين القضاء الواقف والقضاء الجالس، كما أنه رغم تواضعه المادي لم يتخل في يوم من الأيام عن أناقته المعهودة وتواضعه الجم، فكان يستيقظ من نومه ويتريض في حديقة السجن، ثم يمسك خرطوم رش المياه ليسقي الزرع والورد وأشجار الفاكهة في الحديقة، وكان بمثابة المستشار القانوني والقلب الرحيم لكثير من زملائه أو أصحابه من اللواءات أو القضاة أو حتى رجال الأعمال، ولتأكيد أناقته أكد المقربون من ماهر الجندي أنه كان يمسك مسبحة غالية الثمن، ويلبس ساعة يد أنيقة، كما أنه حافظ طيلة أيامه في ليمان طره علي حسن مظهره، ولم ينس يومًا مناصبه.
يوسف عبد الرحمن
ومن أشهر نزلاء سجن ليمان طره، من ملوك السجن، يوسف عبد الرحمن التلميذ النجيب والطفل المدلل لوزير السرطان يوسف والي، يوسف أطلق عليه زملاؤه لقب "البرنس" لأنه يعيش فعلاً دور البرنس، ويحافظ على صبغة شعره وشاربه، كما كان يرتدي في السجن الملابس "السينييه"، وقال المقربون الكثير عن نهمه الكبير للمشويات والمقويات، وحرصه على متابعة ما تنشره الصحف وتبثه نشرات الأخبار، ويتابع أخبار وزارة الزراعة في ظل أمين أباظة ومن قبله أحمد الليثي بشغف، ومن المعلوم أن البرنس يوسف عبد الرحمن كان قد تم إلقاء القبض عليه بعد تحريات موسعة من قبل الرقابة الإدارية، وتم سجنه في قضية إهدار المال العام، واستيراد مبيدات مسرطنة، كما اتهم بالرشوة الجنسية و"الزيس"، وهي القضية التي شغلت الرأي العام كثيرًا بعد دخول اسم السكرتيرة الخاصة به راند الشامي في ملف القضية، والتي لا زالت عالقة في الأذهان حتى الآن.
حسام أبو الفتوح
أما حسام أبو الفتوح فهو ملك آخر بلا تاج من ملوك السجن، وقد ارتبط اسم الرجل بكثير من الفنانات، أبرزهن علي الإطلاق الراقصة دينا، وكان ذلك من خلال فيديوهات جنسية تم تسريبها ووصلت إلى تلاميذ المدارس، والغريب، ما قاله الكاتب الصحفي محمود صلاح على لسان المستشار ماهر الجندي عن حسام إبان فترة سجنه، والتغير الكبير في شخصيته: "نموذج للشخص المثالي، اهتم كثيرًا بالجانب الروحي والديني، وواظب علي الصلاة في جماعة، وكان يؤم الناس في كل الأوقات، ويخطب الجمعة"، والجميل في شخصية حسام أبو الفتوح الجديدة، كما ذكر محمود صلاح: "إنه كان يساعد السجناء في صمت، ويتكفل برعاية أهاليهم خارج السجن، كما كان يوزع الطعام علي كثير من المساجين، وذلك نظرًا لكميات الطعام الكبيرة التي كانت تأتيه من الخارج"، سبحان مغيِّر الأحوال.
هشام طلعت مصطفي
ومن هؤلاء الملوك رجل الأعمال هشام طلعت مصطفي "المتهم الثاني في قضية مقتل سوزان تميم"، والذي سبق أصدقاءه من المسئولين ورجال الأعمال إلى طرة، فيقول أحد المعاينين للسجن: "سمحت إدارة سجن ليمان طره لهشام طلعت مصطفي فور القبض عليه بجهاز تكييف وتليفزيون وجهاز كمبيوتر مزود بفاكس، كما سمحوا لسكرتيره الخاص أن يزوره يوميًا من العاشرة صباحًا إلى السادسة مساء للأطمئنان علي سير العمل في مجموعة طلعت مصطفي في سوق العقارات، والاطلاع علي تقارير البورصة المصرية، كما ينعم هشام في محبسه بمكتب مزود بكل وسائل الاتصالات لمباشرة أعماله الإنشائية والتجارية"، وتشير بعض المصادر إلى إن هشام ينعم بغرفة مجهزة بها مكتب وثير، ومجموعة من المقاعد حتى يطمئن ويطلع علي حجم التعاقدات الجديدة، وكذلك الذين انسحبوا من المجموعة بعد اتهام كبيرهم في تلك القضية الشائكة".
الكاتب الصحفي محمود صلاح يؤكد أن سجن ليمان طره كان ولا يزل مركزًا رجال الأعمال والمشاهير من الفنانين والوزراء والقضاة والمستشارين، وهذه الفئات لها معاملة خاصة داخل السجن".
وعن بداية ليمان طره يقول محمود صلاح أن الاحتلال البريطاني استعان بضابط فرنسي كان يجيد اللغة العربية لتصميم السجن، واختار الضابط الفرنسي هذا الموقع ليكون قريبًا من الجبل، والطريف أن المساجين كانوا يقومون بتكسير الحجارة، ثم يقدمون بنقلها إلي مكان إنشاء السجن، بمعنى أن المساجين أنفسهم هم الذين قاموا ببناء السجن، والحق يقال كما تقول الوقائع فقد ألغى الرئيس السادات عقوبة تكسير الأحجار، وقدر أن تكون جميع السجون المصرية فترة "تأديب وتهذيب وإصلاح".
صلاح عيسى
أشهر المشاغبين السياسيين في مصر وزبون قديم من زبائن السجون المصرية، هو الكاتب صلاح عيسى الذي المثقف الذي نشأ بين عدة أيديولوجيات جعلته من أكثر الناس إيمانًا بالتعددية في الأفكار والانتماءات السياسية، مما كان سببًا في أن يخوض صلاح عيسى معارك فكرية عديدة دفع فيها ثمنًا غاليا من حريته وشبابه مقابل تمسكه بآرائه وأفكاره المتحررة، والسجن الذي قضى فيه عيسى فترة حبسه كان سجنًا خشنًا لا يصلح لاستقبال البشر، أي بشر، حتى ولو كانوا من متعاطي السياسة، والسجناء هناك كانت لهم مشكلات جمة مع النظافة، ومع ما يقدم لهم من طعام، فضلاً عن انقطاع تام مفروض بين السجين والعالم الخارجي، ولقد كشف صلاح عيسى الجوانب المختلفة للظروف والأحداث التي عايشها منذ معارك الأسلحة الفاسدة، ومرورًا بمعارك الاستقلال والأحلاف والتسليح وتأميم قناة السويس ونكسة يونيو 67، وصولاً لصدمته من زيارة الرئيس السادات لكامب ديفيد، وقبل ذلك حياته القروية البسيطة في قريته التي غادرها في العام 1948 وحكاية سماعه لأول مرة في حياته لصافرات الإنذار وأصوات المدافع المضادة للطائرات في أول زياراته للقاهرة، كما يحكي عيسى عن بداية علاقته بالسياسة منذ شارك في أول مظاهرة العام 1950، وهو مازال طالبًا بالسنة الأولى بالمدرسة الخديوية الثانوية، وكانت هذه المظاهرة تهتف ضد وزير الداخلية وقتها فؤاد سراج الدين وتطالب بسقوطه، ويكشف عيسى سرا هاما في حياته، وهو أنه من عائلة ذات انتماءات سياسية متنوعة ومتناقضة، فوالده كان وفديا وعمه عضوا في حزب مصر الفتاة، وأبناء عمومته كانوا من الإخوان المسلمين، ومن هنا كانت مسيرة صلاح عيسى لها خصوصية، وعن محطة اعتقاله لأول مرة في عصر الرئيس جمال عبد الناصر وملابسات هذه الفترة وانضمامه إلى تنظيم شيوعي سري، وانسحابه منه وألوان التعذيب التي ذاقها في سجن القلعة، بعد أن تم القبض عليه يوم عيد ميلاده، هذا السجن الذي يعني منه النزل حتى ولم يمارس ضده أي صنوف التعذيب، فمجرد الحياة داخل جدران جحيم لا يوصف، ففي تلك المرحلة كان المعارضين يعيشون في السجون عيشة غير آدمية بالمرة، ذاقها عيسى وأقرانه من كل الفصائل، ولا تتسع الأوصاف للوقوف على بشاعة المعتقل، وسوء الإضاءة التي تصل في بعض الأحيان للعتمة، والتجرد من الأدوات التي يمكن استخدامها حياتيًا، وكذلك تجربة اعتقال عيسى الثانية بعد مرور سنة واحدة على الإفراج عنه بعد الاعتقال الأول، وكان ذلك في العام 1968 بتهمة التحريض على المظاهرات، يومها قال عبد الناصر عن عيسى: "الواد ده مش حـ يخرج من السجن طول ما أنا عايش"، وذلك عندما تدخل خالد محي الدين للإفراج عنه باعتبار عيسى محسوبًا على اليسار، ويحكي عيسى حكايته مع الرئيس الراحل أنور السادات وسر استدعائه أكثر من مرة للنيابة قبل صدور قرار القبض عليه في العام 1977، وتفاصيل تمكنه من الهروب لمدة 10 شهور إلى أن تم القبض عليه، فيعترف صلاح عيسى بكل فخر بصحة ما تردد بأنه كان أول عربي توجه إليه تهمة القيام بعمل عدائي ضد إسرائيل في العام 1981، وتأثير هذه التهمة في تعرضه للاعتقال في حملة اعتقالات سبتمبر من العام 1981 التي دخل فيها السجن ضمن 1536 شخصية، وأوصاف السجن وقتها تتجلى فيما كشفه عيسى من المفارقات حيث تم اعتقاله مثل في زنزانة واحدة في اعتقالات 1981 مع فؤاد سراج الدين الذي كان يهتف بسقوطه في العام 1950، وكأنه يشير إلى سياسة السجن في الجمع بين خصمين في زنزانة واحدة، ولم يكن أبدًا عيسى من ملوك السجن الذين كانوا ينعمون بحياة مترفة خلف الأسوار.
وعلى صعيد آخر، تم تقسيم سجن "المزرعة" الأشهر بين السجون المصرية ليكون نموذجًا منفصلاً عن منظومة السجون المصرية، فالمزرعة مقسمة إلي 7 عنابر يسع العنبر في المتوسط 350 فردا بإجمالي 2450 سجينا، وتختلف معاملة إدارة السجن لهذه العنابر حسب الرؤية الأمنية، فعنبر الجنائي خاضع تماما لسيطرة رجال مباحث السجن وإدارته، علي عكس العنابر الستة الأخرى والتي اكتسبت اسمها الرسمي من طبيعة المعتقلين فيها، فهناك - بجوار الجنائي - عنبر الإخوان، وهو مركز احتجاز القيادات الإخوانية، أما العنبر الثالث - عنبر السياسيين - فيضم المعتقلين الذين "تابوا" من الإسلاميين، كما يضم أيضا بعض الكوادر الحزبية، ويأتي عنبر التخابر والذي يحمل الرقم 4 بين عنابر المزرعة كأحد مراكز الاحتجاز الضبابية، حيث تتوارد عنه معلومات متضاربة باستمرار سواء من بعض المعتقلين السابقين أو من منظمات حقوق الإنسان، فهو يضم مزيجا غريبا من المتهمين بالتخابر لصالح إسرائيل وليبيا وإيران، ويعتبر عنبر ضباط الشرطة والقضاة - عنبر 5 - أكثر أماكن سجن المزرعة غرابة وتميزًا، حيث يوجد به - حسب تقرير جمعية مساعدة السجناء - 8 ضباط برتبة نقيب و5 برتبة رائد واثنان برتبة لواء، بالإضافة لعشرة سجناء برتبة ملازم أول، ويفيد التقرير أن العنبر مخصص لاستقبال الضباط والقضاة المتهمين في قضايا الرشوة، وبعضهم صدرت ضده أحكام نهائية بالفعل، ويعتبر هذا العنبر أكثر أماكن طرة تميزا، فكون المساجين من الضباط والقضاة يضفي علي المكان نوعا من التغيير الملحوظ في المعاملة، سواء بتحديد زيارات شبة يومية أو في معاملة إدارة السجن، وتساهلها في إدخال كل ما يريده الضباط من الخارج، فهؤلاء هم ملوك السجون بحق، حيث تأتي لهم الإدارة بلبن العصور، ويعيشون حياة عادية، بل هناك من الأحرار خارج السجون لا يتمتعون بما يتمتع به هؤلاء من سطوة خلف الأسوار، ولديهم كل الكماليات التي يحرم منها غيرهم مما يطلق عليهم "عجين" السجن، عدماء الحيثية، الذين يحيون حياة صعبة لا تليق ببشر، بل يتم استخدام بعضهم لخدمة السجناء الملوك، ويقومون بأعمال تشبه ما يقوم به الخدم خارج الأسوار، فيظل الباشاوات باشاوات حتى خلف القضبان.
أما العنبر "6" يقول عنه رجل – من العجين - كان حبيسًا به في يوم ما - رفض ذكر اسمه – إنه عنبر تأديب يتكون من 7 زنازين انفرادية مساحتها 2 متر في 2متر، بلا إضاءة ولا فتحات تهوية، مع تخصيص إدارة السجن زنزانة كدورة مياه جماعية، وبخلاف العنابر الأخرى يقضي المعتقلون في التأديب حياتهم داخل زنازين مغلقة ممنوعين من التحدث إلي بعضهم، فجدران الزنازين الأسمنتية هي حدود عالمهم بالكامل.
عزام عزام
وبرغم الأوامر المشددة لعنبري التأديب بقطع الاتصال نهائيا عنهم فإن الوضع يختلف حسب الأوامر، فالجاسوس الإسرائيلي عزام علي عزام ومعه الجاسوس طارق عماد الدين، المصري المتهم بالتخابر مع الموساد ونقل معلومات حساسة لإسرائيل، كانا يخضعان لمعاملة خاصة في عنبر التأديب المجاور رقم 7، والذي يتطابق مع عنبر 6 في تكوينه، فيقول مدير جمعية مساعدة السجناء: "الزنزانة التي تقرر نقل الجاسوسين إليها معدة بشكل جيد حيث تتوفر إضاءة دائمة ومياه، كما أن المكان معد بشكل جيد لاستقبال طارق وعزام، والغريب أن سيارة السفارة الإسرائيلية تحضر للسجن يوميا كل ما يطلبه عزام وطارق"، وقد سمعنا كثيرًا عن توصيف لمكان اعتقال عزام، وكلها أوصاف تدفع الأحرار للحقد على عزام الذي أسست له دورة مياه خمسة نجوم، وأثاث ورياش، ووجبات ساخنة وشهية تأتيه من سفارته.
جمال فهمي
وفي إحدى أشهر قضايا الرأي العام، في العام 1998 حكم القضاء علي الصحفي جمال فهمي بالسجن لمدة ستة أشهر قضاها في سجن المزرعة، يقول فهمي: الطريق إلي طرة بدأ من أكبر احتفالية تجمع المثقفين في مصر، من معرض الكتاب حيث توجه الكاتب ثروت أباظة بشكوى علنية ضدي، فبسرعة قياسية بدأت محاكمتي، وحكم علي بالسجن لمدة 6 أشهر قضيتها بمزرعة طرة بعد فترة ترحيل قضيتها في سجن الاستئناف"، ويضيف جمال فهمي: "دخلت عدة معتقلات سابقا كأحد النشطاء السياسيين مثل معتقل القلعة، لكن في طرة رأيت كم التغيرات التي جرت في إدارة السجون المصرية، فبرغم وجودي في عنبر سياسي إلا أن وجودك في السجن يعطيك فكرة عما يدور بشكل حقيقي داخل مصر، مرة سألني أحد الجنائيين الذي تعرفت عليهم عن سبب الحبس، فأجبته: قضية نشر وأخدت 6 أشهر، فأشار لنفسه، وكان نشالا محترفًا: "يعني النشل أحسن من النشر، بقي أنا نشال وواخد 3 شهور بس!"، ويؤكد فهمي في شهادته أن "مصر ثاني أكبر الدول في نسبة المساجين بعد الولايات المتحدة، فكل شيء في مصر محكوم بالمعني الحرفي، فخلال السجن عرفت أنك لو غنيت غلط تتسجن ولو مثلت غلط تتسجن ولو صورت في الشارع تتسجن"، ويتابع فهمي: "السجن هنا ليس مجرد مكان لاحتجاز أفراد خطرين علي أمن المجتمع، كما هي العادة في كل الدول، ففي مصر السجون والمعتقلات هي الموطن الأصلي للمصريين، فخلال 6 أشهر رصدت الشرائح والفئات الموجودة حولي، فوجدت رجال أعمال مع تجار مخدرات وصحفيين معارضين مع رموز الحكومة، ونشالين وموظفين تأخروا في دفع قسط غسالة، فوصلت لقناعة بأن الشعب المصري مطلوب في نظر الداخلية، والغريب أن نفس الشعور وصل لضباط السجن، فكان أحدهم يسب الحكومة ليل نهار مع كل ترحيلة، وحين تكلمت معه أخبرني أن الدولة أنفقت 10 مليارات جنيه لبناء السجون، وأضاف ده جنان رسمي"، ويضيف جمال: "شاهدت هناك حقائق عن تزاوج السياسية والفساد، فأحد المساجين - رفض ذكر اسمه - المتهم في قضية اللحوم الفاسدة في أواخر التسعينيات كان مشهورًا بزياراته الرسمية المستمرة التي قام بأحدها بعض الكبار والوزراء، وحين سألته عن طبيعة العلاقة أجابني: أنا زي ما أنت عارف جزار وتاجر لحوم كبير، وكل عيد لابد يروح لبعض الكبار خروفين ثلاثة من عندي قبل يوم العيد بأسبوع، وبعد ما يستلم المسئول يتصل قبل العيد بقليل ليخبرني إنه لا يملك مكانا كافيا لهذا العدد فاذهب واشتري منه ما سبق أن أهديته له قبل أيام، وتصور في سنة واحدة اشتري 3000 رأس للهدايا ثم أعيد شرائها من الكبار مرة أخرى"، وفي مقابل الزيارات الحكومية فإن زيارات المثقفين ظلت تتم بشكل آخر ففي 25 أغسطس من العام 1998، وأثناء زيارة وفد نقابة الصحفيين لجمال فهمي اعتدى أحد ضباط السجن علي الصحفي يحيي قلاش وعدد من الصحفيين منهم جلال عارف ورجاء الميرغني ومحمد عبد القدوس، وحسب فهمي: "كانت حجة الداخلية أن الضابط مختل عقليًا ولا تجب محاسبته"، يقول فهمي: "عرفت بالخبر في اليوم التالي من الصحف التي سمح بدخولها، وفوجئت بتعرض وفد نقابي علي هذا المستوي للضرب والسحل"، ويضيف ضاحكًا: "رغم العلقة استمر الزملاء في زيارتي حتى خرجت"، لذا لنا أن نقر بأن الصحفيين ليسوا من ملوك السجن أبدًا، ورغم أن أغلبية المتهمين في مزرعة طرة من السياسيين إلا أن الداخلية لا تتنازل عن ولعها بفكرة زنازين التأديب.
نظمي شاهين
يقول نظمي شاهين "أحد أعضاء تنظيم ثورة مصر" الذي ضم خالد عبد الناصر، نجل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر: "السجن سجن ولو في البيت، أنا قضيت 14 عامًا من الحبس الانفرادي المتواصل من سجن لسجن كل واحد في غرفة لمدة 14 سنة، عدا بضعة أشهر كانت كل عهدنا بالحبس الجماعي - نحن الأربعة أعضاء التنظيم فقط - ثم انتقلنا عقب وفاة العميد محمود نور الدين للانفرادي مرة أخري حتى انتهاء المدة في 20 سبتمبر من العام 2002"، ويضيف شاهين: "المزرعة ليست أبدًا سجن خمس نجوم كما يروج البعض، فالواقع أن حديثهم عن السجن بهذا الشكل يعطي مبررًا للداخلية في مزيد من التنكيل بالمساجين، فالحبس الانفرادي لمدة 14 سنة تعذيب يفوق الخيال، مرة سألت نفسي يا ترى أنا لسه باتكلم ولا نسيت الكلام؟، وبدأت أتحدث لنفسي كي لا أفقد القدرة علي النطق، وأصرخ فجأة بصوت عال حتى سمعت الإدارة فخصصت لنا نحن الأربعة أحد أفراد الأمن يأتي إلى كل زنزانة ليتحدث مع كل منا في مكانه حوالي نصف ساعة في اليوم كي لا نفقد القدرة علي الكلام فعليًا، وحين انتقلنا في البداية من أبو زعبل شديد الحراسة لسجن المزرعة، لم أكن أستطيع الجلوس علي كرسي، فطوال 10 سنوات لم أر غير أسفلت الزنزانة، بعد عدة أشهر خرجنا للانفرادي مرة أخري كل واحد في زنزانة خاصة مع وفاة محمود نور الدين، ودخول الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام السجن"، ويضيف شاهين: "لم يكن الإسرائيليون كائنات غريبة علينا، فنحن كتنظيم استهدفنا قتل عملاء الموساد في مصر، ولهذا السبب حكم علينا بالمؤبد، وسبق أن كان معنا تاجر مخدرات إسرائيلي اسمه ياريف خصصت له إدارة السجن مكتب ضابط العنبر كزنزانة بها مكتب وبانيو – من ملوك السجن بصحيح - وكنا نرى باستمرار واردات السفارة ترسل له حتى مجلات البورنو، فضلا عن كل المزايا التي لا تتوافر حتى للضباط"، ويتابع شاهين: "أما عزام فكانت الحالة مختلفة تمامًا، حيث كان وجوده في المزرعة سببًا في العديد من المشاكل، فكان زواره من السفارة، وكذلك طعامه وشرابه وملابسه، وبمجرد أن يبدأ عزام تمارينه الصباحية تتوقف الحياة في السجن تمامًا، وتغلق الزنازين ويتوتر الضباط رغم أنه جاسوس بحكم المحكمة"، ويضيف شاهين عن وفاة قائد التنظيم: "في يوم وفاة محمود فوجئنا بحرارته ترتفع فوق الأربعين، وطول الليل كنا بنعمل له كمادات، ونحاول ننادي علي ضابط النظام بلا جدوى حتى أن محمود نظر إلينا وقد تحول إلي كتلة من المياه قائلاً: كفاية أنا تعبتكم وتعبت، وفي الصباح صادف أنه موعد زيارتي وفوجئت بحمادة شرف يخبرني بالوفاة، وأن مأمور السجن تكتم الأمر، فعدت للزنزانة حتى أتى طبيب برتبة عالية وعدة لواءات، فخشينا نقل الجثمان للثلاجة في أبو زعبل كي لا يشمت عزام - فقد نقلوه لهناك خوفًا عليه منا - فرفضنا تسليم الجثة حتى تأتي النيابة، وسجلت في المحضر أقوالي أن محمود توفي نتيجة الإهمال الطبي الجسيم، وأن الداخلية حاولت التكتم علي الأمر، وإنه ظل طوال الليل يعاني من الحمي، وإنه أصيب بأمراض القلب والغضروف وعرق النسا من النوم على الأسفلت في الانفرادي لمدة 10 سنوات متصلة انتهت بوفاته، فعوقبنا بالنقل من زنزانة تجمعنا نحن الأربعة، وعدنا مرة أخرى للانفرادي كي يعود عزام مرة أخري لممارسة الرياضة في السجن".
كمال خليل
في أواخر تسعينيات القرن المنصرم وقع الآلاف من أعضاء الجماعات الإسلامية علي ما سمي وقتها بإقرار التوبة دون شروط، فصدر قرار بنقل القياديين التائبين إلي سجن المزرعة بعد أن أقروا بالتوبة في السجون شديدة الحراسة، ورغم مكافأة القياديين والتائبين بنقلهم للمرزعة إلا أن توبة الداخلية لم تكتف ببصمة النزيل علي ورقة بيضاء، لكنها تطمح دائما لما هو أكثر، يقول القيادي اليساري كمال خليل "أحد المعتقلين السابقين بالمزرعة": "دخلت طرة عدة مرات منذ العام 1998 علي خلفية تظاهرات القوي الوطنية المناهضة لغزو العراق، وقابلت مجموعة من التائبين في المرتين، وكان أغرب ما شاهدته في المزرعة أحد التائبين من أعضاء الجماعة الإسلامية الذي كان يقوم بدور الإمام في صلاة الجمعة، وفور صعوده علي المنبر يبدأ في الدعاء للرئيس مبارك وللداخلية والنظام ككل، وليس هذا فقط، بل تتحول الخطبة لحفلة سباب ضد أفكار الجماعات الإسلامية نفسها، وكيف أنهم أفسدوا في الأرض وخرجوا عن ولي الأمر إلي آخر هذا الكلام، فدهشت للغاية من هذا الشكل المهين في التعبير عن تغيير أفكاره التي أراها خاطئة، فسألته عن السبب فأجابني: أنا من 3 سنين هنا كل جمعة أطلع علي المنبر أعمل نفس الموال ده وأدعو للحكومة والرئيس والوزير بطول العمر وألعن الجماعة رغم إنني محبوس معاهم، والمصلين أغلبهم منها بيأمنوا علي الدعاء، ورغم ذلك لم يفرجوا عني حتى الآن"، ويضيف خليل: "مرة أخري في العام 1998 ناداني أحد التائبين: يا كمال يا شيوعي، ففوجئت بصوت محمود نور الدين رحمه الله يسب الرجل ويحذره من الاقتراب مني، وكانت له وللتنظيم هيبة وخبرة طويلة بالمعتقل، فسألت محمود: لماذا نهرته، فأنا يساري ولا أخفي ذلك؟، فأخبرني أن نداءه عليَّ بهذا الشكل طريقة لتحريض التائبين ضدي، خاصة أني كنت معهم في نفس الزنزانة، بعدها عرفت أن أهم واجبات التائب أن يكون عصفورًا بالمجان"، وهي صورة جلية لتحول أبناء العنف لأبناء السلطة!!.
جمال الغيطاني
الروائي والكاتب الصحفي جمال الغيطاني له ذكريات أليمة مع الضرب والإهانة وشتى أنواع التعذيب حتى يعترف على زملائه، إلا أنه فضل أن يسلم نفسه للموت على أن يعترف على زملائه، ويحكي الغيطان عن بدايته مع السجن في العام 1966 عندما اقتحموا بيته في الفجر، وظلوا يفتشون من الفجر حتى شروق الشمس قبل أن يقتادوه بتهمة الانتماء لتنظيم "وحدة الشيوعيين"، وكان فيه معظم المثقفين في تلك الحقبة، وهناك في ليمان طرة وجد زملاء كثيرين كان يعرفهم منهم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وصبري حافظ، وسيد حجاب، ويمضي الغيطاني متحدثا عن ذلك المعتقل الذي ذاقوا فيه ألوانا من العذاب، وكيف كانوا ينامون واقفين، وقصة انتقاله لسجن القلعة، واصفا أحاسيسه وخوفه من المجهول الذي كان ينتظرهم، وهو يركب سيارة الترحيلات وشعور الخوف الذي انتابه مما سيلاقيه من العذاب في هذا السجن المرعب، وكيف أنه كان يعد نفسه لهذه اللحظات العصيبة، ثم حكاية تحول اسمه إلى رقم "37"، وهو رقم الزنزانة التي حُبس فيها حبسا إنفرادنا، ويكشف عن وقائع التعذيب بالكهرباء والضرب بجنون وحكايته مع "العسكري الأسود"، وهو أحد السجانين المتخصصين الذي كان يضرب العساكر وهم عرايا، واغتصابهم.
رفعت السعيد
14 سنة خلف القضبان، هذه الفترة ضاعت من عمر الدكتور رفعت السعيد مقيدة حريته في السجون والمعتقلات كأصغر سجين سياسي في أول قضية شيوعية بالدقهلية، يشارك فيها حيث كان عمره وقتها 15 سنة، ويكشف السعيد نادرة من نوادر تلك الفترة في حياته فقد كان عمه هو خاله، ولذلك اعتبره الناس في قريته "بركة"، كما تأثر السعيد بذكرى جده الشهيد الذي راح ضحية حكومة صدقي باشا، ويمضي مستطردا ذكرياته كأصغر سجين في عنبر "20" في معتقل الهايكستب، وتجاوره لزنزانة زعيم الصهيونية في مصر آنذاك "أوفاديا سالم"، ثم ينتقل لتوضيح تفاصيل اعتقاله للمرة الثانية في العام 1952، وعمره كان 18 سنة، وخروجه بعد يومين بفضل الرشوة التي دفعها والده ثمنا لخروجه حتى لا تضيع عليه السنة النهائية في التوجيهية، ثم حكاية القبض عليه هو ووالده دون ذنب، وتعرض رفعت للتعذيب وسر كتابته لأدلة إدانته بخط يده ليقدمها للمحكمة، كما يفصح السعيد عن رفض الإفراج عنه ضمن من أُفرج عنهم بعد أن تصالح مع الشيوعيين، ثم يحكي قصة هروبه من خمس سنوات مراقبة بتنقله للعيش فوق الأسطح والعشش، ويكشف كيف كان سببا في كل الكوارث – على حد قوله – التي أصابت أفراد عائلته قبل أن يتم القبض عليه مرة أخرى ويقتاد لسجن القلعة، وسبب ضربه للعسكري الذي أراد أن يغمي عينيه، كما يحكي السعيد عن الواقعة الطريفة التي دخل فيها السجن بسبب رسالة الدكتوراه الخاصة بالسيدة جيهان السادات، وانتهت به إلى دخول سجن القلعة، ساردًا القصة المثيرة للعلقة الساخنة بالأحزمة والأحذية الميري التي تلقاها على رأسه، والإقامة غير الآدمية التي عاناها طويلا.
سامي شرف
وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وعلى مدار 18 سنة، له تجربة داخل السجن، في عهد السادات لمدة عشر سنوات كاملة من أصعب الفترات في حياة سامي شرف، الذي خرج من ديوان الرئاسة إلى ليمان طرة وخلع الزي الرسمى ليرتدي بدلة السجن الزرقاء وينام على البلاط بجوار جردل صغير في سجن إنفرادي حتى أنه طلب أن يعدم ليتخلص من هذه التجربة القاسية على نفسه، ومن المفارقات التي يكشفها شرف إنه زامل محمد فائق وزير إعلام عبد الناصر في المدرسة الثانوية، ثم زامله مرة أخرى في المعتقل في زنزانة مجاورة طوال سنوات طويلة بعد أن عاشا كمسئولين كبيرين زميلين أيضا في نفس العصر الناصري.ويحكي سامي شرف رحلته مع السياسة، ومشاركته مبكرا في المظاهرات وهو طالب في الأربعينيات من القرن العشرين، ويروي قصة لقائه بعبد الناصر لأول مرة، وكيف تم القبض عليه عام 1953 ليدخل سجن الأجانب رغم قربه من جمال عبد .
عبد الرحمن الأبنودى
قصة اعتقال أشهر شعراء العهد الناصري في معتقلات عبد الناصر، إنه عبد الرحمن الأبنودي، صاحب أكبر رصيد من الشعر والأغاني الوطنية المشتعلة بالحماس الثوري والشعارات القومية، مع الشاعر الراحل صلاح جاهين، لا ينسى الخال كيف تم القبض عليه بعد نكسة 1967 واندهاش الجميع من هذا الأمر لدرجة أن ضباط المعتقل كانوا يتساءلون فيما بينهم عن سبب اعتقال الأبنودي، وكيف أنه رغم هذا الاعتقال لم يكف عن عشقه للروح الوطنية والقومية، فخرج من السجن ليكتب روائع جديدة في الشعر الوطني، ونذكر منها "موال النهار"، "ابنك يقولك يا بطل هات لي نهار"، و"أحلف بسماها وبترابها"، ويكشف الأبنودي عن اعتراف خطير بأنه لم يسعد سجين بسجنه، مثلما سعد هو في سجنه الانفرادي في زنزانة القلعة ومزرعة طرة حيث تفتق ذهنه ووجدانه عن أعمال كبيرة، ولم ينس علاقته بالماركسية، ولا موقف والده من سجنه، وحكايته مع الزنزانة رقم "21" التي ذاق فيها الهوان، ويصف الأبنودي الزنزانة بأوصاف بشعة، وهو الذي كان له أصدقاء من المشاهير على رأسهم عبد الحليم حافظ الذي كان يمده بالسجائر، ويؤكد الأبنودي أن جمال عبد الناصر بريء مما حدث له، وتلك المسألة نرها في الحقيقة التفافًا على العدل والحق، ولا يمكن في الأمم التي تحترم حقوق الإنسان أن نبريء ساحة الحاكم مما ألم بالمواطنين من سحق الكرامة وتكبيل الأيادي!!.
فهمي هويدي
يكشف الكاتب الإسلامي قصته كأصغر معتقل سياسي، اتهموه بقلب نظام الحكم وعمره 16 سنة، وكان ذلك بحكم علاقة والده بجماعة الإخوان المسلمين، ومع ذلك قضى 12 شهرا في المعتقل دون أي ذنب، ورغم مرور عدة عقود على هذه الواقعة إلا أن تفاصيلها لا تزال محفورة في عقل فهمي هويدي، ويمضي هويدي في اعترافاته عن فترة اعتقاله إلى الحديث عن مشاهد التعذيب القاسية والكلاب البوليسية التي كانت تنهش في جسد رجل عاري في زنزانة ممتلئة بالماء، وكذلك ردة فعل هويدي وهم يعذبون والده، ومرارة ذكرياته وهو بالملابس الممزقة وهم يجلدونه ويجبرونه على الشرب من نفس الكوب الذي يتبولون فيه، كذلك يصف لنا تأثير هذه التجربة المبكرة بكل مرارتها على التحولات التي حدثت في شخصية فهمي هويدى وعلاقته بالإخوان المسلمين وبالسلطة، وخاصة اصطدامه بالرئيس السادات عندما منعه من الكتابة لأنه هاجم دعوة الشيخ حسن الباقوري وزير الأوقاف آنذاك، إلى انتخاب السادات للأبد في العام 1973.
محمد فائق
عاش محمد فائق "وزير الإرشاد القومي في العهد الناصري" 10 سنوات كاملة من عمره خلف قضبان زنزانة في حبس انفرادي، ويكشف فائق سر الرسالة التي أرسلها له السادات يطالبه فيها بالاعتذار مقابل أن يفرج عنه، وسبب رفضه للعرض الساداتي، وقال وقتها: "طول ما السادات عايش لن أخرج من السجن أبدا"، وعن محبسه يقول: "تقبلت العيش في مكان تسكنه الحشرات والفئران في سجن انفرادي لمدة عشر سنوات متنقلاً في سجن القلعة"، ولم يحتفظ داخل محبسه الوضيع بشئ واحد يصحبه من أيام الوزارة والحياة الرغدة إلا السيجار، في معتقل وصفه بـ "الموحش".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق