الأحد، 19 يونيو 2011

حكايات السجون من أفواه المساجين

من أفواه المساجين:
حكايات السجون أثناء الثورة

هنا المنطقة المركزية لسجون طرة، حيث الحراسة المشددة والدبابات وأفراد الأمن الذين انتشروا حول المكان فتحول إلي ثكنة عسكرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وخلف الأسوار يتوارى كل من: علاء وجمال مبارك، أحمد نظيف وحكومته وأعوانه ورموز نظام أكل من لحمنا وارتوى من دماء الشعب، هنا قد يأتي غدًا أو بعد غد المخلوع مبارك في سابقة قد تكون الأولى من نوعها في تاريخ الشعوب العربية، ليكون هو وابناه وأركان نظامه أيضًا نزلاء زنازين عاش فيها قبلهم سجناء سياسيون لايزال كثيرون منهم خلف القضبان، إنها تدابير الله في خلقه.
هذا المكان لم يدخله صحفي قط سوى مكرم محمد أحمد أثناء حوارات صحفية أجراها في بداية التسعينيات مع بعض قيادات الجماعات الإسلامية حول مبادرة وقف العنف.
تلك المنطقة المحفوفة بالوجع والمليئة بسنوات شباب ورجولة انفرطت هنا في دهاليز تلك البناية الغامضة، العقرب، شديد الحراسة، سجن 992 طرة، كلها مسميات لهذا السجن الذي ظل منذ إنشائه في العام 1993 سرًا من أسرار الدولة البوليسية في مصر، وأنشيء العقرب بمعونة أمريكية خصيصًا ليكون مأوى للسجناء والمعتقلين من الجماعات الإسلامية، كما كان دائماً السجن اللغز في سلسلة السجون المصرية الذي لا أحد يعرف عنه شيئًا ربما بسبب أن كل نزلائه قبل ثورة يناير كانوا من السياسيين المحكومين أو المعتقلين في قضايا كبرى، فهنا يعيش المهندس محمد الظواهري شقيق الدكتور أيمن الظواهري، ومنذ أيام خرج منه بدري مخلوف بعدما قضي عشرات السنين خلف جدران هذا المكان الغامض، وهنا أصحاب قضايا "الوعد وطلائع الفتح واغتيال السادات وفرج فودة ومحاولي اغتيال نجيب محفوظ"، وهنا أيضًا أصحاب قضايا "العائدون من ألبانيا وتفجيرات الأزهر والتحرير والسيدة عائشة"، هنا عالم آخر من الحكايات والتفاصيل المثيرة والغريبة التي تتناقض في الرؤى ما بين أصحابها، وبين من وضعوهم خلف هذه القضبان.
ودخول العقرب لأي زائر أمرًا قاسيًا، باب حديدي ثقيل، أخضر اللون، تمر عبره إلى مكان ضيق مثل صندوق صغير، ثم تعبر بوابة أظنها إليكترونية، تعبر من حجرةٍ إلى حجرة، ومن ممر إلى ممر، لتجد نفسك فجأة فى مكان متسع عبارة عن حديقة كبيرة، هي أرض الملعب، بجوارها مكان آخر مخصص للزيارة، وعبر بوابة من القضبان الحديدية تدخل فتغلق خلفك لتجد نفسك واقفًا في بهو صغير وسط مجموعة أخرى من الغرف الصغيرة منها مكتب مأمور السجن.
يقول مجدي إدريس حسن، أحد المحكومين في هذه قضية "تنظيم الوعد" المعروفة إن اسم التنظيم اشتق من عنوان رسالة بحثية كان قد تقدم بها لإحدى المسابقات التي نظمها المركز الإسلامي بدولة الإمارات، وعندما ألقت الشرطة القبض عليه وزملائه اختارت هذا المسمى للقضية.
وعن أحداث أو محاولات الهروب وقت الثورة، يقول إدريس: كنت آنذاك في سجن ليمان طرة حين سادت حالة من التذمر بين السجناء الجنائيين، وأخذوا يطرقون علي أبواب الغرف من يوم الجمعة 28 يناير، وبدأت إدارة السجن تتعامل معهم بإطلاق الأعيرة النارية باتجاه العنابر، كنت أتابع ما يحدث من خلف السور الفاصل بين العنابر الخاصة بالسياسيين والجنائيين، وكان هناك تواجد أمني مكثف لحراس وضباط السجن الذين لم يكتفوا بالوقوف داخل أبراج الحراسة فقط، بل انتشروا فوق السور الممتد حول السجن، خاصةً المتجه نحو عنبر الجنائيين، وكان معاون المباحث، محمد سامي، واقفًا على السور، وأنا كنت واقفًا تحت السور، بص لي وقال: "سلام عليكم يا شيخ"، "وعليكم السلام"، "عاجبك اللي بيحصل ده يا شيخ؟"، "لأ طبعا"، "والله أنا فـ أجازة، ومش ملزم بحاجة، وماحدش حـ يسألني انت ماجيتش ليه؟!!، ولا حد حـ يحاسبني، لكن علشان الخاين المجرم ده اللي اسمه العادلي، واللي عمله حـ انشرب مرارته كلنا، أنا بدافع عن بيتي وأهلي واولادي". ويرى إدريس إن عدم اتجاه السياسيين للهروب يعود إلى إن معظم السجناء السياسيين درسوا الحقوق والعلوم السياسية وحصلوا علي الماجستير أو دبلومات في العلوم، وهم داخل السجن، وكثيرون منهم لديهم أمل أن يستطيعوا الاندماج في العمل العام بعد خروجهم من السجن، فإذا فكر أحدهم في الهرب سيعيش مطاردًا وسيحرم نفسه من هذا العمل، وهذا الأمل بعد هروبه، هذا فضلاً عن أن إدارة السجن لم تسمح فعلاً للجنائيين بالخروج، بل إنها أحبطت تلك المحاولات، ونحن شهود على ذلك.
رواية أخري لسجين آخر من سجناء نفس القضية، اسمه عمر حاجاييف محمد، عمر سجين أجنبي، حوكم في قضية "تنظيم الوعد" بالسجن خمسة عشر عامًُاً، قضي منها عشرة أعوام، يقول عمر: يوم السبت 29 يناير لم تفتح أبواب الزنازين كما اعتدنا أن تفتح لنا في السابعة والنصف أو الثامنة صباحًا، وظللنا ننادي علي الشاويش حتي قام بفتحها الساعة العاشرة، وبعد العصر سمعنا أصوات هتاف المتظاهرين يمرون بالطريق خارج السجن ويهتفون "الحرية.. الحرية"، ثم فوجئنا بحريق كبير في منطقة الهيش المحيطة بالسجن، وألسنة اللهب ترتفع لأعلى السور الذي يبلغ ارتفاعه حوالي ستة أمتار، هذا السور الفاصل بين عنابر السياسيين والجنائيين، وقتها قالوا إن الحريق سببه كابل كهرباء تسبب في حريق بالهيش، لكن بعدها الشاويشية قالوا إن الناس الذين كانوا يهتفون خارجد السجن قذفوا زجاجات مولوتوف على الهيش، وسمعنا في إذاعة الـ
BBC عن اقتحام سجن أبو زعبل، والمرج، وهروب المساجين، واكتشفنا حالة هياج قوية في عنبر الجنائيين، بعدها شاهدنا أفراد الحراسة في الأبراج يطلقون النار علي السجناء الجنائيين، ولما شاهدنا الأوضاع تتطور بهذا الشكل خفنا ندخل الزنازين، وأرسلنا أحدنا يطلب من الإدارة أن نظل خارج الزنازين، ووعدناهم بكلمة شرف إننا لن نفعل شيئًا، وفعلاً نمنا ليلتها في ملعب السجن، واستمر ضرب النار أكثر من أسبوع، وعرفنا إن الجيش كان يتعامل مع ناس خارج السجن حاولوا اقتحمه حوالي 3 مرات، والجيش تصدى لهم، وقتها الشاويشية كانوا يلبسون الملابس المدنية، بعد أيام من الأحداث كان هناك 4 أو 5 عساكر هم فقط الموجودون على السور، جلسوا كثيرًا من غير أكل ولا شرب ولا حتى تغيير وردية، بعدها نزلوا وشغل الشاويشية أماكنهم لفترة حتى جاء عساكر يبدو أنهم من مكان آخر غير السجن.
وأضاف عمر: لم تكن لدينا أية نية للهرب، ولم تخطر الفكرة لنا من الأساس، ولماذا نهرب وفينا من أمضى سنوات طويلة في السجن وبقي علي خروجه شهور، ومن كان أنهى عقوبته ولم يفرج عنه بعد، فلماذا نعرض أنفسنا للمساءلة أو نظل مطاردين؟!!، لكننا كنا سعداء بالصحوة التي تشهدها مصر، وإن الناس رفضت الظلم وقالت "لا" بصوت عال، في البداية لم نكن مصدقين، قلنا يوم 25 سيمر مثل غيره، مظاهرات ووقفات احتجاجية تقوم ثم تنام، لكن عندما استمر الوضع ليوم 28 شعرنا إن ما يحدث حقيقة، وبالفعل مصر تتغير، الصراحة كلنا كنا خائفين على الناس لو أجهضت ثورتهم، التغيير كان حلم وأمل ليس للمصريين فقط، لي أنا أيضًا، لأن الذي سيغير مصر سيغير أوضاعنا أيضًا، وانتظرنا الإفراجات بعد سنين طويلة قضيناها في السجن.
أما سعيد إبراهيم محمد الذي اعتقل فيما عرف بـ "قضية تفجيرات الأزهر"، فيقول: كنت أتابع ما يحدث في عنبر الجنائي عبر النظارة، وهي فتحة صغيرة في باب حديدي بالسجن، وشاهدت كثيرًا من المصابين الجنائيين تقوم إدارة السجن بنقلهم إلى المستشفى فوق عربات كارو، وموجودة أصلاً لتحميل الرمل اللازم لاستكمال بناء في المستشفي، ولتحميل الزبالة أو بضاعة داخل السجن.
يستكمل سعيد: وفي هذه الأثناء كانت تلقى على عنابر الجنائيين القنابل المسيلة للدموع مما تسبب في حدوث حالات اختناق، وفوجئنا بأحد الضباط هو نفسه تعرض لحالة إغماء نتيجة ذلك الدخان وسقط عندنا في عنبر السياسيين، وحاولنا إفاقته فالوضع في السجن كان مضطربًا، وكان من الصعب نقله إلى المستشفى، خاصةً في ظل إطلاق النار الكثيف الذي كان يحدث، وقد شاهدت كثيرًا من المصابين فقدوا أعينهم بسبب طلقات الخرطوش فضلاً عن آخرين أصيبوا داخل الزنازين نتيجة إطلاق الحراس النار باتجاهها للسيطرة علي الوضع، وفوق سور السجن كان أحد الحراس يطلق الرصاص الحي عليهم، فقال له مجند آخر وهو يشير باتجاه عنبر الجنائيين: "إنت قتلته"، فرد الأول: "ديه أوامر علينا"، قلت لأحدهم: "حرام عليك انت بتضرب كده تموتهم"، فأجاب: "يا شيخ ديه أوامر علينا".
أبو العلا محمد عبد ربه، المحكوم عليه بالسجن في "قضية اغتيال فرج فودة" يبدأ حكايته الأولى عما حدث في سجن العقرب وقت أحداث الثورة، وأنباء هروب السجناء من سجون أخرى، فيقول: كنا حوالي مائة وخمسين سجينًا سياسيًا، وكانت الأوضاع في السجون كلها علي حد السيف، أما هنا فقد أبدى بعض الشباب تذمرهم من الوضع خاصةً مع قلقهم علي ذويهم في الخارج، ومع إحساسهم بأن الأوضاع خارج السجن تتغير مع حدوث الثورة، أرادوا أن يشاركوا فيها كما ظنوا أن هناك من قد يستمع لمظالمهم وشكواهم، فبدءوا يضيقون بالأسوار والجدران التي عاشوا خلفها سنوات طويلة، خاصةً مع سماعهم أنباء عن أن السجون قد فتحت وخرج سجناؤها، فبدءوا يطرقون أبواب الزنازين في حالة من الغضب، وقامت إدارة السجن بإطلاق بعض الأعيرة النارية على الأبواب والجدران، مما أصاب أحد السجناء، بعدها استطعنا نحن الكبار سنًا أن نتكلم معهم ونهدئهم مما جعل الإدارة تشعر بالارتياح تجاه ما أصبح عليه الأمر بعد ذلك، لم يكن همنا آنذاك هو الخروج من السجن، كل ما كنا نتمناه هو أن تنجح هذه الثورة حتى ينزاح الهم الجاثم فوق صدورنا منذ سنوات طويلة، وعندما سمعنا عن الثورة المضادة تملكنا الخوف على المصريين من أن تجهض ثورتهم التي فتحت أمامنا أبواب الأمل بعدما شعرنا بأننا سنموت خلف هذه القضبان، بعدها جاء قرار الحاكم العسكري بالإفراج عن كثير من السياسيين إلا أننا مازلنا خلف القضبان رغم تغير الزمان والظروف وطريقة التفكير في التغيير ورغم مرور العمر وما عانيناه ولاقيناه طوال سنوات طوال.
شهادة أخرى من سياسي آخر، هو جمال شهري، قضية طلائع الفتح، يقول: كنت وقت الثورة في سجن ليمان طرة، وقد بدأت حالة من الهياج في عنبر الجنائي مساء يوم 28 يناير، ورأيت الحراس والضباط يقفون بكثافة في أبراج الحراسة وفوق سور السجن، ولأننا اعتدنا علي حدوث مشاكل في الجنائي اعتقدنا أن هذه المرة ضمن المشاكل التي تحدث دائمًا، عرفت بعدها أن الجنائيين رفضوا الدخول إلى الزنازين بعد انتهاء فترة التريض اليومي لهم مما اضطر إدارة السجن لإغلاق الباب العمومي للعنبر بلحام كهرباء حتى يمنعوهم من الخروج، خاصةً أن وجودهم في الحوش خارج الزنازين يجعل هناك صعوبة في السيطرة عليهم.. ثم سمعنا أصوات الناس في الشارع يهتفون للثورة، بعدها شاهدنا ألسنة لهب لحريق في السجن الجنائي، البعض قال إن فيه ناس جاية تخرج المساجين وألقت علي السجن أشياء مشتعلة، بينما قالت الإدارة قبلها إن الحريق سببه اشتعال كابل كهرباء مما أحرق الهيش "المنطقة المزروعة حول السجن"، والبعض قال إن ديه حريقة في الجنائي، بعدها بدأ إطلاق النار باتجاه العنابر الجنائية، وقتها طلب منا الحراس دخول الزنازين، لكننا خفنا أن ندخل في ظل هذه الأوضاع لأنهم كانوا حـ ينسونا لحد ما الأوضاع تهدا وماحدش كان عارف حـ تهدى إمتي، وعدنا الإدارة إننا حـ نفضل خارج الزنازين، ومش حـ نتصرف أي تصرف يضايقهم، وفعلاً استمر الحال علي الوضع ده لمدة أسبوع، هياج متواصل في الجنائي يقابله ضرب نار مستمر من الحراس، لكن في اليوم الثالث من ضرب النار الجيش بدأ يدخل للسجن، ودخل عدد من ضباط الجيش يتفاهموا مع المساجين ويهدوهم خصوصًا إن المساجين كانوا رافضين يتعاملوا مع ضباط حراسة السجن، لقينا الشاويشية والمخبرين جايين يقولولنا: "الجيش خلاص استلم السجن واحنا مالناش دعوة بيكم بعد كده"، وقتها كنا سامعين عن اقتحام قوات الأمن لعنبر المحكوم - يقصد سجن القاهرة - لمنع 3 آلاف مسجون تحت التحقيق من الهرب، وفي الوقت ده كان فيه قتلى ومصابين عشان كده المساجين في الليمان خافوا يحصل هنا زي ما حصل هناك، اليوم ده كانت حراسات الشرطة منتشرة فوق السور، ولما انتشرت شائعة إن الجيش استلم السجن بدءوا يسيبوا المكان وينزلوا، وبعد دخول ضباط الجيش مع الجنائيين طلع حوالي 3 مخبرين علي السور، ولقيت مخبر فيهم اسمه حسن واقف بيشاور للمساجين ويقولهم اخرجوا، وقتها ضباط الجيش كانوا مديين الأمان، ولما دخلوا عندهم ما قفلوش باب العنبر وراهم، ولما المخبر شاور لهم يخرجوا عدد كبير منهم خرج فعلاً، واضطر ضباط الشرطة يتدخلوا ويضربوا نار علي الجنائيين، فرجعوا مكانهم تاني جوا العنبر، بعدها الجيش فضل واقف حراسة علي السجن من بره، وساب الحراسة الداخلية لضباط السجن.
الشيخ محمد الأسواني، أشهر سجين سياسي هارب في مصر، هكذا يطلق عليه رغم ما مر به من العمر، وما آلت إليه صحته اليوم، حيث إنه مازال سجينًا في سجن ليمان طرة، لكنه له شهادته الخاصة من داخل مستشفى السجن الذي لا تسمح له حالته الصحية بمغادرته، يقول: إحنا سمعنا إن كل شوية سجين يهرب، لكن عندنا في طرة الإدارة تصدت بحزم للجنائيين لما حصلت حالة قلق منهم، المستشفى بتاع السجن مكانه قدام المشرحة، لقيت حوالي 7 - 8 جثث لمساجين فوق عربية كارو وداخلين بيهم للمشرحة، كان معظمهم إصابات في الرأس أو الصدر أو العين، كنت عارف إنهم حاولوا أكتر من مرة يعملوا تمرد عشان يخرجوا لكن كان نفسي طريقة التعامل معاهم تكون مختلفة، يعني الضرب يبقي للتعجيز مش القتل، يبقي مثلاً في الرجلين، لكن فيه حالات كتير للمصابين كانت في العيون، لدرجة إن كتير فقدوا نظرهم بسبب الخرطوش، الأحداث ديه اتكررت بعد كده كتير واترتب عليها تغيير إدارة السجن بعد كده، لكن للأسف إللي جه جديد هرب منه مساجين قبل كده، متخيلين حـ ايعمل إيه دلوقتي.. لكن الحق يتقال ماحدش فتح السجن ولا إدي فرصة لمسجون إنه يهرب، وزي ما قلت الإدارة تصدت بحزم لمحاولات الهروب.
الشيخ محمد الأسواني له حكاية مع الهروب، فالأسواني محكوم عليه بالمؤبد في قضية اغتيال السادات، وقد استطاع الهرب من سجن ليمان طرة في العام 1988 ومعه اثنان من زملائه، هما الرائد عصام القمري، ومساعد صاعقة خميس مسلم، اللذان حوكما في نفس القضية، وبعد مرور 21 يومًا من الهروب ألقي القبض علي الأسواني فأصيب وقتل كل من عصام وخميس.


الجهاز الوطني.. والضحك على الذقون


لعبة الضحك على "الذقون":
من "مكتب الخدمة السرية" سنة 1910.. إلى "جهاز الأمن الوطني" سنة 2011


الكلام المبني للمجهول يصنع كثيرًا من المطبات اللغوية التي تصنع بدورها حالة من التوهان، وأحيانًا سوء الفهم، نفس التأثير ينتج عن الأفعال التي لا نعرف لها صاحبًا أو محرضًا أو محركًا، الأمر يشبه الحالة التى يعيشها الشارع المصري الآن بعد أحداث إمبابة والاشتباكات الطائفية التي انتهت بحرق كنيسة وقتلى ومصابين.
التوهان هنا سيد الموقف، لأن المتهم مازال غير واضح، بعض الأصابع ومقاطع الفيديو تتهم التيار السلفي، بينما أصابع أخرى أطول منها وجلسات خاصة وعامة تتهم مخابرات أجنبية وبقايا جهاز أمن الدولة بالتخطيط والتحريض لإشعال تلك الفتن المتعاقبة بداية من أطفيح وحرق كنيسة قرية صول، ثم أحداث المقطم، وحتى اشتباكات إمبابة التى جاءت أكثر دموية.
اتهام جهاز أمن الدولة هنا لا علاقة له بنظرية المؤامرة وألاعيبها وخيالها الذي يشطح بالبعض أحيانًا، بل له علاقة قوية جدًا بتلك الأمور التى كانت معلومة بالضرورة في كل شارع وكل حارة، بأن هناك خيطًا ما من التعاون يربط بين التيار السلفى، وجهاز أمن الدولة، تتضح معالمه فى تلك الفضائيات التي كانت تظهر بلا حساب في بلد كان الظهور الفضائي فيه لا يحدث إلا بإذن أمن الدولة، وفى حرية عقد اللقاءات والخطب والندوات في مساجد وجمعيات كلنا نعلم أن تراخيصها تخرج من جهاز واحد فقط، هو أمن الدولة.
اتهام أمن الدولة يرتبط أيضًا بتلك الخدعة الكبرى والمقلب الجامد والوهم الكاذب الذى خلقته وزارة الداخلية، ومررته حكومة الدكتور شرف لكي نشربه كلنا ونحن راضون بما تقدمه لنا حكومة الثورة التى هتفنا لرئيسها في ميدان التحرير، المقصود بالخدعة هنا هى لعبة وزارة الداخلية المعروفة باسم حل وتفكيك جهاز أمن الدولة المتهم الأول بإفساد هذا الوطن، واستبداله بجهاز أمني آخر يحمل لقب "جهاز الأمن الوطني".
المقلب هنا يشبه تمامًا تلك الحدوتة الشهيرة التي تتحدث عن هؤلاء السذج الذين جاءوا إليهم بشوال ملح وكتبوا عليه سكر، فهتفوا مهللين من شدة الفرحة قبل أن يتذوقوا الملح ويكتشفوا الخدعة، الحق يقال إن عملية المراوغة الكبرى التى قامت بها وزارة الداخلية فيما يخص أمر حل جهاز أمن الدولة، وإعادة تصديره للناس فى ثوب وشكل جديدين، كانت عبقرية منذ الخطوة الأولى التي بدأت في ليلة اقتحام مقرات أمن الدولة في المحافظات، وهو الأمر الذي تم في سهولة وسلاسة لا تتناسب أبدًا مع تحصينات تلك المقرات، وتحديدًا مقر الجهاز في مدينة نصر، والذي لا يمكن بأي شكل من الأشكال اقتحام أبوابه الأمنية التي يتكلف الواحد منها مليون جنيه، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى حقيقة أسداها أحد قيادات الجيش حين تردد – كذبًا – أن الجيش سمح للناس بدخول المقر الرئيسي لأمن الدولة، وبمنتهى الصدق قال القائد العسكري أن أبواب المقر فتحت من الداخل لكن شهادة الرجل ذهبت أدراج الرياح، فلم يكن ممكنًا أن يدخل الجمهور المقر دون رغبة القائمين على الجهاز في حدوث ذلك، الدلائل على وجود تسهيلات لاقتحام هذه المقرات كثيرة، ويمكنك الرجوع إليه في أي وقت، ولكن الأهم هنا أن ما حدث خلق نوعًا من الإيهام بأن الجهاز سقط وتم تدميره، حينما دمرت وحرقت مقاره الرئيسية والفرعية، ثم استكملت وزارة الداخلية المراوغة بإعلان شفوي عن إعادة تقييم ضباط الجهاز من أجل استبعاد السيئ منهم من تشكيل الجهاز الجديد، ثم اكتملت الخطة بالإعلان عن اسم جديد للجهاز هو "الأمن الوطني" مع تعهد شفوي دون أية ضمانات بعدم تدخل الجهاز الجديد فى الحياة السياسية، حتى لا يكون أحمد هو الحاج أحمد.
عبقرية عملية النصب هذه لا يمكن أن ننسب فضلها بالكامل لوزارة الداخلية الحالية، ويقول التاريخ أن الخطة التي نفذتها الداخلية لحل جهاز أمن الدولة بعد الثورة هي نفسها الخطة التي يتم تنفيذها مع الجهاز كلما اشتعلت في مصر ثورة، وكلما علت موجة الغضب الشعبي على الجهاز ورجاله، حدث هذا بعد ثورة 19، ثم تكرر نفس السيناريو بعد ثورة يوليو، ثم تكرر المشهد بكل تفاصيله بعد ثورة التصحيح في العام 1971، مجرد تلاعب في الوجه وملامح الجهاز وإداراته، وتغيير في الأسماء مع فترة سكون وصمت وهدوء دون تقديم أية أطروحات قانونية أو خطوات ملموسة لضمان عدم عودة الجهاز إلى ما هو عليه مرة أخرى.
تغيير اسم الجهاز هو أكثر لعبة تم استخدامها للتهرب من جرائمه وصورته الذهنية السيئة فى عقول المصريين، الجهاز الذي بدأ في 1910 باسم "مكتب الخدمة السرية"، ولد من يومه لوظيفة محددة وواضحة هي تعقب الحركة الوطنية والقضاء عليها، كما أعلن مؤسسه السير "ألدون جوست"، وطبقًا لما أورده الخبير الأمني اللواء حسن الوشاحي في دراسة له قيد الإعداد عن جهاز أمن الدولة، فإن لعبة تغيير اسم الجهاز بدأت بعد ثورة 19 حينما تورط رئيس الجهاز وقتها فى فتح كوبري عباس على طلبة الجامعة المتظاهرين، وحمل الجهاز بعدها اسم "قلم ضبط ب"، ثم "القسم السري الخصوصي"، وللهروب من الغضب الشعبي تم تغيير اسم الجهاز قبل ثورة يوليو وحمل اسمه الشهير "القلم السياسى" صاحب الذكريات المرعبة في عهد عبد الناصر، وفي تلك الفترة تعملق الجهاز وتجبر وأصبح أكبر وأخطر أدوات القمع في مصر كلها، وهو الأمر الذي دفع جمال عبد الناصر لأن يتخلص منه ومن الغضب الشعبي عليه وعلى رجاله بتغيير اسمه إلى "جهاز المباحث العامة"، ولكن على نفس الطريقة طريقة تغيير الأسماء والملامح فقط، أما الجهاز نفسه فظل على حاله يمارس تتبعه للمعارضين والتجسس على الصغيرة قبل الكبيرة في مصر، وعقب ثورة التصحيح والكشف عن التسجيلات والمعتقلات أراد السادات أن يلعب اللعبة نفسها ويثبت للناس أنه قادم وفي يده الحرية، وبالتالي كان لابد أن يتخلص من جهاز التسجيلات والبطش المعروف، وظهرت القضية الأشهر بقضية "انحراف قيادات جهاز المباحث العامة"، وتم القبض عليهم، ومنهم صفوت الشريف الموجود بسجن طرة الآن، وبعدها اتبع السادات نفس الخطة القديمة، وقام بتغيير اسمه إلى "جهاز أمن الدولة"، وبمرور سنة وراء أخرى في فترة السادات بدأ الجهاز يأخذ شكله المرعب الذي أصبح عليه في عصر المخلوع مبارك، بحيث أصبح متحكمًا في كل الأمور، فلا ورقة رسمية في مصر تأتي أو تذهب إلا بعلم أمن الدولة، ولا أحد يتنفس إلا باسم الجهاز الذى امتلك الحق في التعذيب والاعتقال وتسجيل المكالمات واختطاف المعارضين في الشوارع دون أن يملك أحد حق الاعتراض، حتى القضاء نفسه، وحينما اشتعلت ثورة 25 يناير وخرج الناس يطالبون برقبة رجال جهاز أمن الدولة، ويرفعون شعار حل أمن الدولة والقضاء عليه قبل شعار رغبتهم فى رغيف عيش بلا مسامير، لجأت وزارة الداخلية إلى نفس الخدعة القديمة، وقامت بتغيير اسم الجهاز دون تقديم أية ضمانة حقيقية أو قانونية تكفل عدم عودته إلى وضعه السابق.
تعاملت وزارة الداخلية مع المصريين وكأن العصافير مازالت تعشش على أقفائهم، وملامح السذاجة لم تفارق وجوههم، وتخيلوا أن تغيير الاسم أمر كاف لكي ينسى المصريون أن الجهاز الذى اعتقل وعذب الآلاف منهم وأفسد الحياة السياسية لم يحاسبه أحد، ولم ينل رجاله العقاب المناسب على ما فعلوه في مصر وشعبها، ومع الإعلان عن عودة جهاز الأمن الوطني لعمله فى المحافظات والمطارات بدأت المراكز الحقوقية ووسائل الإعلام تتلقى شكاوى بالجملة من المواطنين كلها تدور حول أن الذين عادوا للعمل تحت مسمى "جهاز الأمن الوطني" هم أنفسهم من ضباط وأمناء ومخبري جهاز أمن الدولة السابق الذين أفسدوا وعذبوا والذين طالما قدمت ضدهم شكاوى وبلاغات بسبب تعسفهم وفسادهم، حدث هذا في الغربية وفي الشرقية والوادي الجديد الذي نظم المواطنون فيه اعتصامًا احتجاجًا على بقاء ضباط أمن الدولة الفاسدين تحت لافتة "الأمن الوطني"، وهو نفس الاعتصام الذي تكرر في المنوفية، حينما فوجيء المواطنون بوجود 6 من ضباط جهاز أمن الدولة "المنحل" ضمن "جهاز الأمن الوطني" الجديد.
الطبخة التي أعدتها داحلية ما بعد الثورة للشعب باسم "جهاز الأمن الوطني" ماسخة ومائعة، والأرقام التى أوردها اللواء الوشاحى فى دراسته تكشف لماذا تحولت لعبة تغيير اسم الجهاز من لعبة مضمونة في الماضي حدثت بعد ثورتي يوليو والتصحيح إلى خدعة مفضوحة لا يمكن أن يصدقها أصغر عيل في أصغر حارة بعد ثورة 25 يناير، أمن الدولة ذلك الجهاز الجبار الذي حظي بدعم الدولة ورعاية وزارة الداخلية، وكان يملك حق تقرير الصغيرة قبل الكبيرة في البلد كان قوامه الرئيسي 3 آلاف ضابط وحوالى 15 ألف أمين وجندى، بالإضافة إلى 15 ألف موظف مدني لا يمكن تبرئتهم من أعمال الإرشاد وكتابة التقارير ونقل المعلومات، بالإضافة إلى عدد ضخم من من المرشدين يصل إلى حوالى مليون مرشد، وكل هذا موزع على مختلف محافظات مصر عبر 29 فرعا، أضف إلى تلك الأرقام حالة السرية التى أحاطت بالجهاز، والتي توحي بأن الكثير من أسرار هذا الجهاز ومقراته وسجونه ورجاله مازالوا طي الكتمان.
كل هذه الأرقام والأعداد الضخمة حاول وزير الداخلية أن يقنعنا أنه تم هيكلتها في شهر واحد فقط، هي الفترة الزمنية التى فصلت بين إعلان حل الجهاز وإعلان بدء جهاز الأمن الوطني عمله في المطارات والمحافظات المختلفة، شهر واحد في الظروف العادية حيث البلد أكثر استقرارًا، وحيث مقرات الجهاز السابق على حالها، ولم تتعرض للحرق أو التدمير والملفات لم تتعرض للسرقة والتسريب، لا يكفي أبدا لإعادة تشغيل، أو حتى وضع خطط أمنية واضحة مختلفة عن الخطط السابقة، ولا تكفي لتدريب الضباط القدامى أو الجدد على أساليب عمل تختلف عن الأساليب القديمة، شهر واحد في الظروف العادية لا يكفي لإعادة تقييم الأفراد العاملين بالجهاز والذين يبلغ عددهم مجتمعين أكثر من 33 ألف، ودراسة ملفاتهم من أجل استبعاد المتهمين في قضايا فساد وتعذيب، والتفرقة بين من هم على استعداد لتقبل أساليب العمل الجديدة، ومن هم باقون على ولائهم للنظام القديم، صعوبة حدوث ذلك خلال شهر واحد في ظروف طبيعية يعني استحالة حدوثه تمامًا في تلك الظروف الصعبة التي تعيشها مصر، والتي تعيشها وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة على وجه التحديد، ولا أعرف كيف تخيلت الداخلية أن المواطن المصري سيصدق بسهولة أنه تم تقييم 3 آلاف ضابط نصفهم على الأقل متهم بالفساد والتعذيب خلال أسبوعين أو ثلاثة بشكل يضمن براءتهم من التهم المنسوبة إليهم، ويضمن عملهم بشكل مخالف عما كان فى السابق؟!، لا أعرف كيف تخيلت أن الناس في مصر ستصدق خدعة حل جهاز أمن الدولة، وخدعة تسريح ضباطه المتهمين بالسرقة والفساد والتعذيب، ونحن لم نسمع عن ضابط أمن دولة واحد تم تقديمه للمحاكمة، أو تم التحقيق في البلاغات المقدمة ضده، والتي تملك المراكز الحقوقية منها الكثير؟!، هل يعقل ألا نسمع عن أي محاكمة أو تحقيق مع ضباط الجهاز الذين كانوا أكثر انتهاكًا للقانون وتعذيبًا للمواطنين وتبديدًا للمال العام، حيث كان الجهاز يمتلك مصروفات سرية تصل إلى 50 مليون جنيه في الشهر الواحد طبقًا للمعلومات الورادة في دراسة اللواء الوشاحي؟!، وهل يمكن أن نصدق أن الجهاز الحالي تم تطهيره من ضباط التعذيب ونحن نعلم طبقًا لتصريحات الداخلية أن 25% فقط من قوة الجهاز تم تغييرها؟.
حينما تقارن حجم فساد الجهاز وحجم الغضب الشعبي منه في كل محافظات مصر، وحجم الشكاوى المقدمة ضد ضباطه في مراكز حقوق الإنسان ووسائل الإعلام، ستعرف أن تطهير الجهاز يستدعي مضاعفة نسبة الـ 25% ثلاث مرات على الأقل.
في الأمر إذن خدعة كبرى اسمها حل جهاز أمن الدولة، خدعة تكشف أن الجهاز القمعي باقٍ ويعيش حالة سكون في انتظار اللحظة المناسبة لإعادة ممارسة نشاطه، خدعة يمكن كشفها بسهولة من خلال مراوغة وزارة الداخلية في وضع قوانين واضحة تحكم عمل الجهاز وتجعل من خططه وعمله أمورًا علانية خاضعة للمراقبة والتدقيق.
لا تصدقوا وزارة الداخلية إذن، ولا تصدقوا كذبة "جهاز الأمن الوطني"، فما حدث لم يتعدَ كونه تغييرًا لليفط والشعارات والأسماء، أمر واحد فقط يمكنه أن يبريء وزارة الداخلية، أمر بسيط لن يكلفهم سوى نشر كل أسماء الضباط العاملين في "جهاز الأمن الوطني" الآن، ومراجعة ملفات الشكاوى بوزارة الداخلية والمراكز الحقوقية ودراسة ملفات كل ضابط وتقييم أدائه في المنطقة التى كان يعمل بها، حتى نضمن أن الذين عادوا إلى الجهاز هم أهل الكفاءة والشرف، وليس أهل الواسطة وملفات التعذيب.
وسنقول دومًا أن المصالحة لا تكون إلا في مقابل المصارحة، أما عدا ذلك فهو مضيعة للوقت ومراوغة وجعل مصر على موعد مع انفجار مدو في لحظة مباغتة لا يعلمها الذين لم يتوقعوا اندلاع ثورة 25 يناير رغم تجبرهم وتحكمهم في كل شاردة وواردة، والذين كانوا يريدون أن يختلي الزوجين بإذن منهم ومن وزيرهم الموجود الآن في سجن طرة، استقيموا يرحمكم الله، وتعلموا الدرس ولو لمرة واحدة، كفى الله مصر شر أبنائها وبارك لها في الطيبين منهم!!.


الأحد، 27 يونيو 2010

أنبياء الزيف.. من رشاد قاتل والده إلى مهدي الفيوم









(مهدي) الفيوم.. أعاد إلى الأذهان ملف (الأنبياء المزيفين):
(شعيشع) نبي يحتفي - و(منال) أم لراقصة - و(رشاد) قتل أباه - و(عمر) صادق الصحابة وصاحب عزرائيل


على مر التاريخ ظهر عدد من الأشخاص المجانين الذين ادعوا النبوة وزعموا أن الوحي اصطفاهم لكي يهدوا البشرية وينقذوها من الضلال، فقد ادعى عدد منهم إنه المهدي المنتظر، ومنذ أيام "مسيلمة الكذاب" ومرورا بـ "الشيخ" بريقع و"الدكتور شعيشع" الذي كان يقبل الرجال من أفواههم مرة، ويقبل النساء 20 مرة، والدكتور رشاد خليفة الذي ادعى كذبا في أمريكا أنه رسول الله، وقد عثر عليه مذبوحا في مطبخ منزله على يد أتباعه، وانتهاء بـ "الشيخة منال" التي قبضت عليها مباحث القاهرة وقد ادعت أن زوجها الميت أعفى مريديه من الصلاة، وإنه سخر من يحج عنهم، كل هؤلاء بعضهم قتل على يد أتباعه بعد أن اكتشفوا زيف ما يدعونه، وبعضهم تم القصاص منه، وفي معظم الأحوال تقوم الشرطة بواجبها فتقبض على هؤلاء المخبولين وتزج بهم في السجون أو مستشفيات المجانين حتى يعودوا إلى عقولهم.
وها نحن نعرض لقصة مهوس آخر، له واحدة من أعجب حكايات مدعي النبوة، فلم يكتف بالكذب والضلال فأتى الفواحش بعد أن تجرأ على كل ثوابت العقيدة، أما الأغرب فهو أن يكون الكاذب واتباعه من خريجي الجامعات وبعضهم يشغلون مناصب مرموقة.
الدكتور شعيشع
ولد صلاح شعيشع بمدينة الإسكندرية، في نوفمبر من العام 1922، وعاش حياة فقيرة قاسية، توفي والده وهو طفل، لكنه كافح وعمل حتى التحق بكلية الطب، قوي البنية، سليط اللسان، يميل إلى التندر والاستهزاء بالآخرين.
بعد أن تخرج صلاح من الجامعة عمل في عيادته الخاصة، مارس فيها العمل كطبيب باطني، ثم تحول إلى طب النساء والتوليد، وبعد مرور عدة سنوات، تخصص في عمليات الإجهاض، وأطلق عليه - وقتها - ملك الإجهاض، وبدأت فرصة الثراء تتسع أمامه، خلال هذه الفترة عن طريق سحق الأجنة بالإجهاض، استطاع أن يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وعرف - في الوسط المحيط به - بأسلوبه المحبب في تفسيره، تزوج جارة له، وأنجب منها ولدا وبنتا.
أما نشاطه الديني، فقد بدأ في أوائل الستينيات بالصدفة البحتة، حيث اهتم بتحضير الأرواح، والالتقاء بمن يعملون مع الجان، ثم اتجه إلى الصوفية وأنشأ جماعة خاصة به.. راح - من خلالها - يدعو إلى طريقته ويروج لها.. لكن أنصاره انفضوا من حوله.
لم يكن يتردد على عيادة شعيشع سوى الراغبات في التخلص من الحمل الحلال أو الحرام، ولا عجب إنه كان يتحرش بهن مستغلاً ظروفهن، فمنهن من جاءت للتخلص من حمل حدث سفاحًا، حتى أصبح معرضا للشبهة كل من يحاول الاقتراب من عيادته، وكثيرا ما كانت تشكو السيدات من سلوكه اللا أخلاقي الذي يتعامل به معهن أثناء وجودهن للعلاج.
وفكر شعيشع في إقناع زوجته معتقدا أنها ستكون أول من يؤيد دعواه، وتسلم بأنه (نبي)، لكنها كذبته، بل حاولت إصلاح أفكاره، وإثناءه عما يدعي، ودنيا صلاح شعيشع لا تضم سوى الملوك والصعاليك، فالملك هو الشخص الذي آمن إيمانا مطلقا بأن شعيشع هو (النبي محمد)، ويرضخ - تماما - لكل أقواله وأفعاله، ويذعن لأوامره وطلباته، وهؤلاء في معظمهم ممن دخلوا في نطاق دعوته منذ البداية في العام 1960، ويزعمون - تبعا لتعاليمه - أنهم رأوا النبي محمدا - عليه الصلاة والسلام - في مناماتهم، وهم مبشرون بالجنة، كما بشر النبي العشرة الكرام.
أما الصعلوك، فهو من دخل الطريق لكنه لم يزل غير مقتنع بنبوة الشيخ صلاح، ويستمع إليه أكثر، حتى يؤمن به تماما، فيرقى إلى درجة الملوك، ويحتفل به جميع الأتباع في حفل يؤمه الشيخ.
والساحة التي يلتقي فيها شعيشع بأتباعه، عبارة عن حجرة فسيحة، تتوسطها أريكة وثيرة يجلس عليها الشيخ مرتديا جلبابه الأبيض، وأمامه يجلس حوالي ثلاثين شخصا ما بين رجل وامرأة، بعضهم في الصفوف الأولى على مقاعد مريحة - وهؤلاء هم الملوك - والبعض الآخر في الصفوف الخلفية يفترشون الأرض، وهم الصعاليك.
يدخل الرجل جلسة الخميس فيقبل يد شعيشع، ثم يسلمه شفتيه ليقبلها ثلاث مرات، أما النساء فلهن رعاية أكبر، وتفيض عليهن بركات شعيشع، فلا يقل نصيب الواحدة من المريدات عن ثلاث وعشرين قبلة في فمها، وأحيانا تتكثف البركة في قبلة واحدة طويلة، تمتد قرابة الثلاث دقائق، وحين يحملق المريدون لهذا المشهد المثير، يرد عليهم الشيخ بعد أن يفرغ من مريدته الملقاة بين ذراعيه وهو يبتسم: إنها القبلة المحمدية.
ولأن شعيشع شخصية غريبة ومثيرة، فهو من المؤمنين بالعلم الحديث، وبالتالي فقد سمح لأتباعه بأن يسجلوا بالصوت والصورة ما يدور في ساحتهم بأدق التفاصيل، ومن خلال مئات الصور التي سجلتها شرائط الفيديو يظهر الشيخ وهو في غرفة نومه: طويل القامة، أبيض البشرة، يميل وجهه إلى الاحمرار، ممتلئ قليلا.
ومن الطقوس التي تمارسها جماعة شعيشع عند زيارة أحد المريدين له، لابد أن يعلم - أولا - من القادم، وبعد الإذن له بالدخول يخلع الضيف حذاءه ويقف بالباب واضعا يديه فوق بطنه كمن يقف في صلاة، فيتمتم الشيخ بكلمات غير مسموعة، يقول بعدها: الله، فيرد الزائر: الله يا سيدي، ثم يتقدم نحوه، فإذا كان صعلوكا يقبل يده مرة وفمه ثلاث مرات، ثم قدمه اليمنى، وإذا كان ملكا يزيد على الصعلوك بتقبيل ظهر القدم اليسرى وبطنها، أما إذا كانت سيدة، فتقبل يد الشيخ بعدها يأخذها بين ذراعيه ليطبع على شفتيها ثلاثا وعشرين قبلة.
من الطقوس أيضا (وقت الأذكار) يقف المريدون خلف الشيخ صلاح الذي ينادي السيدة زينب أو سيدنا الحسين قائلا: الله.. فيردد الأتباع وراءه: الله.. الله، وتزداد سرعة الذكر، ليصبح ما يقولونه: آه.. آه.. آه.. اختصارا لجملة "أعوذ بالله"، ثم يدخل "الشيخ" إلى إحدى الغرف، مستضيفا السيدة زينب وسيدنا الحسين وسيدنا الحسن، وعلى حد قوله يطلب منهم الجلوس، ويتحدث معهم، لكن المريدين لا يسمعون ولا يرون شيئا، فهو - فقط - الذي يراهم ويسمعهم، لأنه الرسول، وصاحب الفتاوى الفاجرة، فكان يحض المريدين على عدم صلاة الجمعة، فقد أفتى لهم بأن كل من يصلي الجمعة "بهيم" لأن صلاة الجمعة لا تصلح إلا في دولة إسلامية، وحتى الآن لا توجد على الكرة الأرضية دولة إسلامية، يبقى ممنوع صلاة الجمعة، ويقول في "فتواه" عن الحج: "المعروف لعامة الناس، أن حضرة النبي مات ودفن في المدينة، وهذا ظاهر للجهلاء، أما خواص الناس - وهم أصحاب الطرق - فيعلمون أن النبي لم يمت، وأحباب حضرة النبي - اللي هم إحنا - عارفين إنه عاد في صورة الدكتور صلاح، طيب ما فائدة الحج وحضرة النبي موجود في جسد الشيخ بالإسكندرية؟!، الكلام ده واضح والملوك أسيادي رأوني في المنام، وقالوا إني سيدنا محمد، إذن بدل ما تروح تدور على محمد القديم، أنا قدامك أهو، اللي عايزين يزوروا حضرة النبي يقعدوا قدامي، الناس اللي بتروح تحج دول بيزوروا حديد"، وينهي حديثه متهكما: "قد إيه الناس مضللين!!".
ويواصل "شعيشع" فتاواه الفاجرة، فيقول عن الصلاة: "لو كل واحد يتذكر شيخه في قلبه ويبطل صلاة إلى يوم القيامة، فهو داخل الجنة بإذن الله وشعيشع، الناس تعيش في غباء مستحكم، الصلاة لا تقرب إلى الله، لكن الطريق إلى الله هو حب حضرة النبي حب حقيقي، حتى بدون صلاة أو صيام، هل سمعتم الحديث القائل: من أحب صلاح فهو من الجنة، ومن أحبه صلاح فهو منا؟، إن الجلوس مع الشيخ ساعة، أفضل من العبادة عشر سنوات، وبالنسبة للمعاصي فهي مشطوبة حتى قبل أن نرتكبها هدف الشيطان أن يغوي البشر، أليس كذلك؟، (همهمات بالموافقة) حتى الأنبياء جعلهم الله يخطئون ليريهم البرهان، لكي لا يخطئوا، وهذا يغيظ الشيطان، لأنه لم يستطع غواية الأنبياء، إنما إحنا هنغيظه 24 قيراط، لأننا هنغلط ونشبع في الغلط، من غير ما نتحاسب، فقد صدر مني فرمان بشطب كل المعاصي حتى أكبر الكبائر، فأنت ممكن تضرب أمك بالجزمة دون أن تحاسب، طالما دخلت الطريق".
ويستشهد "صلاح" بحكاية الدكتور إبراهيم الأستاذ بكلية العلوم، ويقول: "رغم إنه ابن كلب، يظهر غير ما يبطن، فهو فاسق عاهر، إلا أن رؤياه كانت دائما تدل على أنه من الموعودين المعصومين، فمهما اقترف من ذنوب، فهو من أهل البيت المعفي عنهم"، ويقول شعيشع: "إن في القرآن ذكره، وإنه بالقرآن بدأ عمره، وبصلاح يعيش عصره فاتبعوه، فأنه سيكون رحمة يوم لا شفيع لكم عنده إلا هو وحده".
ودائما ما كان صلاح يؤكد لأتباعه إنه أعلم بالغيب: "لا شيء محجب عني، إن بيدي قوة الله، فقوله (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) مقصود به أن القوة في يدي، يد الله هي يدي لا أستخدم فيها السيف ولا البندقية، فهي قوة ربانية".
ومن أكثر أحداث جلسات الساحة إثارة، تفسير الرؤى، وهي نوعان: رؤى الحاضرين التي رأوها في مناماتهم، ورؤى الأسياد، وتسمى "التنزيلات"، وهي تعاليم الجماعة، يقومون بتدوينها على "هوامش" المصحف، ويمزجون بينها وبين تلاوة الآيات، ومغفور للمريدين عدم حفظ القرآن، لكن غير مغفور لهم عدم حفظ التنزيلات!!.
أما أقوى "التنزيلات" وأشهرها بينهم، فهو "تنزيل نشوانا" ونشوانا هي طبيبة الأسنان "نشوى سعيد"، التي أخبرت "الشيخ" بأنها رأته في رؤيا نورانية، فأطلق عليها - مكافأة لها - لقب "أم المؤمنين".
ويشرح "الشيخ" لأتباعه - في إحدى الجلسات - كيف وصلت "نشوى" إلى ما وصلت إليه من منزلة لديه، وأصبحت صاحبة "التنزيل" الشهير، فيقول: "إنها لم تستخدم عقلها، وإنما استخدمت قلبها، فكانت رؤياها رحمانية حقيقية، واستحقت لقب ملكة، ثم كان تنزيلها الذي وجب على كل الأتباع حفظه"، جاء في "التنزيل":
"يقول حبيب الله (ص): لأن في قلب نشوانا عقيدة لا تنتهي ولا يمكن، ولأن حب نشوانا لنا هو اليقين، ولأن من خلق نشوانا لا نأخذ منه إلا ما هو ريحان وما هو ياسمين، ولأن نشوانا في عطائها لنا لا تبخل علينا، فإنا لنشوانا محبين، وإنا لنشوانا لمحافظين، وإنها - حقا - لأم المؤمنين وإمام للمحبين، وملكة على عرش قوي متين فوالله إنها لمن الصابرين، فوالله إنها لمن الصادقين، فوالله إنها لمن المتقين، فوالله لبشراي لها إنها ستكون - يومئذ - مع الصالحين، في أعلى عليين " صدق رسول الله ( ص، ع، س) ومعنى هذه الحروف - في آيات صلاح - صلى الله عليه وسلم!!.
أما أطرف رؤيا قصها الأتباع على الشيخ صلاح، فكانت هذه الرؤيا التي تفتقت عنها قريحة الشيخ عبد العزيز، قال: "رأيت حضرة النبي - في المنام - وهو حيران في مشكلة انتقال الشيخ صلاح إلى عالم الآخرة، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكر قليلا ثم أنزل ملكين ومعهم (كبش) يفتديان به الشيخ صلاح".
وجاء تفسير الشيخ صلاح لهذه الرؤيا أكثر طرافة، حيث أوجب على كل صعلوك وملك.. دفع جزء من هذه الفدية!!.
لقد كان شعيشع يفرض على مريديه أتاوات ينفق منها على زوجته ونفسه، وبعض الملوك والملكات المقربين إليه، ومن هذه الإتاوات كون ثروة هائلة، وبتفتيش شقته ليلة القبض عليه، عثر معه على شهادات إيداع قيمتها مليون دولار.
واستطاع أن يجذب إليه عددا كبيرا من الأتباع في بداية دعوته، وكان يركز في وصاياه لهم، على الإكثار من الحديث عن الرؤى والأحلام، مما جعلهم يتخيلون - أو يحلمون بالفعل - برؤى مع الشيخ نفسه، اعتقادا منهم أنه النبي محمد، كما كان يردد أمامهم، وقد اهتم شعيشع في معظم أحاديثه إليهم، بإثارة نقطة تهم كل إنسان، وهي غريزة الجنس، وبلغ به الحد أنه أباح هذه الغريزة، دون ضابط، وكان يقوم بتفسير رؤى أتباعه - التي غالبا ما تكون رؤى جنسية - بتفسيرات شائقة مثيرة، في مجلسه الغريب، الذي يجمع أسرا بأكملها، ومن سلوكه الشاذ، ما كان يطلق عليه (النفحات)، ويصفها بأنها (مقدسة)، وقد قسم هذه النفحات إلى نوعين: نفحات مالية عبارة عن تبرعات يحصلها من الأتباع ليكافئ بها من يرى من مريديه، ونفحات أخرى عبارة عن (قبلات محمدية مقدسة)، كما كان يسميها، يمنحها لكل من يدخل ساحته أو مجلسه، أو من يجيب عن تساؤل يصعب على الآخرين فهمه، المثير للدهشة، أن الأزواج كانوا يستبشرون خيرا بتقبيل الشيخ لزوجاتهم، وكانوا يعتبرون ذلك من علاقات البركة والمحبة، حتى لو بلغ حد (الجماع الجنسي)، وكانت الكثيرات من الزوجات يحكين - في زهو - لأزواجهن عن رؤى جمعت بينهن وبين "صلاح".. فيتفاءل الأزواج، معللين ذلك بأن زوجاتهن قريبات من حضرة النبي، وفي إحدى الجلسات، رفضت زوجة أن يقبلها شعيشع قبلاته المحمدية الثلاث والعشرين من شفتيها، فثارت ثائرته وطلب من زوجها أن يطلقها على الفور، لكن الزوج كان يحبها، وله منها أطفال، وحاول أن يثنيها عن رفضها رغبة الشيخ، فأصرت على الرفض، فطلب منها أن تعلن - كذبا - أنه طلقها، فرفضت أيضا، فما كان منه إلا أن طلقها، إرضاء لسيده الذي طردها من الجماعة، عقابا لها على عصيانه، ولما حاولت العودة إلى زوجها والالتحاق بالجماعة - مرة أخرى - والإذعان لرغبات صلاح أصدرت الساحة حكما عليها بأن تدفع غرامة للشيخ، مقدارها خمسمائة جنيه، نظير الموافقة على العودة، وفعلت!!
وهناك كان مولد النبي، وهو هنا ليس المقصود به مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو عيد ميلاد شعيشع حيث يبدأ الاحتفال منذ الصباح الباكر في التاسعة تماما، المنزل يغوص في الزينات والورود، وعلى صوت أم كلثوم يتم ترديد أغنيات المولد النبوي الشريف، أما الشيخ فلا يزال مضطجعا على سريره الوثير، داخل حجرته الخاصة، ويتوافد المريدون في أبهى الثياب، حاملين الهدايا مع أولادهم وزوجاتهم، الجميع يتسابقون إلى حيث يضطجع الشيخ، ليحظى السعداء منهم بأكبر عدد من (القبلات المحمدية)، فرحة شديدة تبدو على وجوه المريدين، حتى أن أحدهم - ويدعى الشيخ رشاد - راح يهلل صائحا كالأطفال: "يا حلاوتك يا جمالك، يا شيخ شعيشع"، وفي الثانية بعد الظهر يبدأ الاحتفال الرسمي"بالزغاريد والتصفيق وعبارات التهاني، وفجأة ينطلق الموسيقى مع وصلة رقص شرقي صميم من خلال السيدات تتقدمهن الزوجة الثانية للشيخ، ثم يجذبن عددا من الرجال ويطوقونهم بالأحزمة لكي يشاركوهن الرقص، تحية للشيخ وابتهاجا بعيد ميلاده، وبعد (الفاصل) يبدأ المريدون والمريدات في وصلة "الجيرك" وغيرها من الرقصات الغربية المجنونة، وما يصاحب ذلك من تأوهات وصرخات وحركات خليعة، تحت سمع وبصر نبيهم شعيشع.
والجدير بالذكر، إنه حتى أثناء التحقيق معهم بعد القبض عليهم كانوا يهتفون عندما يذكر اسمه: "صلى الله على صلاح".
وبعد الإطلاع والمشاهدة من قبل (لجنة الأزهر) أصدرت تقريرا يدين أفعال شعيشع ومريديه، لينضم التقرير لملف القضية.
رشاد خليفة
ولد رشاد خليفة في مدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية في العام 1935، والده هو عبد الحكيم خليفة، وكان يعمل شيخا لإحدى الطرق الصوفية التي تُسمى "طريقة الرشاد الشاذلية".
عرف عن رشاد خليفة عصيانه الدائم لوالديه وعقوقه لهما، كذلك فقد عرف عنه سوء الأدب والأخلاق والكذب والتدليس، وتخرج في كلية زراعة عين شمس في العام 1957 بتقدير عام مقبول، وفى العام 1960، وبطريقة مريبة للغاية وبدعم من السي آي إيه حصل رشاد خليفة على منحة دراسية في الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراسته العليا – تقديره العام "مقبول"، لم يكن ليؤهله لتلك المنحة التي دائما ما يحصل عليها من يكون تقديرهم "امتياز" أو "جيد جدا"، ومكث رشاد أربع سنوات في أمريكا حتى حصل على درجة الدكتوراه في تخصص "الكيمياء الحيوية" من جامعة كاليفورنيا في العام 1964، وعن طريق السي آي إيه تم اختياره خبيرا للتنمية الصناعية في الأمم المتحدة، وظل رشاد خليفة في منصبه الأممي حتى العام 1971، بعدها بنت له المخابرات الأمريكية مسجدا في "توسان" بولاية "أريزونا" ليعمل إماما لهذا المسجد، الذي يهدف لاختراق الإسلام ونشر الفوضى بين المسلمين.
وخرج رشاد في العام 1976 بأكذوبة الرقيعة أطلق عليها "نظرية الرقم 19"، ليستخدم هذه النظرية الخاطئة لإشاعة الفاحشة بين المسلمين عن طريق الترويج لـ "جهنم بلا عذاب"، وذلك من خلال القول بأن عدد حروف البسلمة 19، والقرآن الكريم يقول عن جهنم "عليها تسعة عشر"، إذن، فلا عذاب في جهنم لأنها محاطة بالرحمة التي هي حروف البسملة، وهناك جهات أجنبية أنفقت على رشاد خليفة مليارات الدولارات، وادعى رشاد خليفة أن هناك آيتين زائدتين في سورة التوبة، وهما الآيتين الأخيرتين 128 و129، وأنه يجب حذفهما لأنهما لا يتماشيان مع أكذوبة "نظرية الرقم 19".
في نهاية العام 1986، اشتد المرض على الشيخ عبد الحكيم خليفة، وخاصة ما ألم به في عينيه، فنصحه الأطباء بالسفر إلى الخارج للعلاج، وسافر الشيخ إلى الولايات المتحدة حيث يقيم ابنه العاق رشاد، لعلاج عينيه من المرض، وذات يوم دار حوار ساخن بين الأب الشيخ والابن العاق، الشيخ يدفعه حنان الأبوة والخوف على ابنه من غضب الله، فأخذ ينصح ابنه بالكف عن ادعاءاته الكاذبة حول الرقم (19) وتصحيح معتقداته الخاطئة حول إنكار السنة الشريفة، وطلب الشيخ من رشاد أن يمنحه فرصة إلقاء خطبة الجمعة في مسجد "توسان"، لكن رشاد خاف مما سيقوله والده في الخطبة، وعلى الفور طلب الشيخ من ابنه العاق أن يحجز له مقعدا في أقرب طائرة ليعود إلى مصر، وقلبه يدمى من أفعال وسلوكيات ابنه العاق، المارق، منكر السنة، وقرب منتصف العام 1987 زار رشاد خليفة مصر، وذهب إلى والده في طنطا يطيب خاطره، وانتهز الشيخ الوالد هذه الفرصة ودار الحوار المعتاد بين الأب وابنه، حول نفس الموضوع، الشيخ يحدوه الأمل في رد صواب ابنه، فكان منفعلا، غيورا على دينه الإسلامي، ولكن نهاية الحوار – في هذه المرة – كانت دامية، فقد اعتدى الابن العاق، المارق رشاد، بالضرب المبرح على والده الشيخ المريض، فكسر له نظارته الطبية، وأحدث به وفى وجهه جروحا دامية، وفر هاربا إلى الولايات المتحدة، تاركا خلفه والده الشيخ المريض في حالة يرثى لها، وبعد أسبوعين فاضت روح الشيخ الجليل إلى باريها حزنا وكمدا.
في نهاية العام 1988 ادعى رشاد خليفة إنه رسول الله، وسرعان ما جاءه الرد الإلهي جراء ادعاءاته الكاذبة وقتله لوالده كمدًا، فقتل رشاد في العام 1990 بولاية "أريزونا" عن عمر ناهز الخامسة والخمسين.
الشيخة منال منَّاع:
اسمها الكامل منال وحيد مناع تبلغ من العمر 42 عاما، زعمت إن بيتها مسجد للصحابة الأولياء وإن عمها المدعو عمر حسانين الذي ادعى النبوة واعتقل ومات في السجن يؤدي مناسك الحج عن أتباعها بالنيابة، وبالتالي لا داعي لأن يحجوا، وإن سيدنا جبريل ومولانا الحسن والحسين وكلا من السيدة زينب والسيدة نفيسة وفاطمة الزهراء يتجلون لها بصحبة عمها عمر حسانين، بل وتضيف إن فاطمة الزهراء وزوجها سيدنا علي بن أبي طالب وإن سيدنا عزرائيل ملك الموت كان يتسامر مع عمها في منطقة المنيل بالقاهرة، وإن عمها عمر حسانين حصل على درجة من النبوة وعلم الغيب وإنه نجح في رفع الصلاة عن بعض أفراد جماعتها.
الشيخة منال كما ورد في ملفات التحقيق معها التي نشرتها الصحف المصرية تلقت تعليمها بالمدارس الفرنسية وتحمل شهادة في الحقوق، وكانت متزوجة من محام معروف ولديها خمس بنات من زوجها الأول والثاني أكبرهن ليلى التي تعمل راقصة، والمثير للانتباه هنا إن معظم الوعاظ وأدعياء النبوة في مصر لم يدرسوا الشريعة وإنما تخصصوا في موضوعات أخرى، ومنهم من لم يكمل تعليمه الابتدائي.
الشيخة منال بدأت بزنيس الدين في العام 1990 حين ادعت النبوة علنا عندما كانت مريضة وتبحث عن علاج من السحر حيث تعرفت على زعيم طريقة صوفية بمنطقة المنيل بالقاهرة يدعى عمر أمين حسانين الذي أصبحت تناديه بـ "عمي"، رغم أنها تزوجت منه، وقد توفي في العام 1993 بعد أن أمضى في قيادة طريقته الصوفية البيومية قرابة 35 عاما، ومن خلال استمرارها في حضور الجلسات التي كان يعقدها زعيم هذه الطريقة عصر كل يوم خميس اختارها عمر حسانين سكرتيرة للحضرة التي كان ينظمها لمريديه وبعد وفاته استطاعت منال الهيمنة على هؤلاء الأتباع وبدأت تروج لأفكار غريبة ومخيفة مثل حضور زعيم الطريقة المتوفى إليها علنا وإبلاغه لها بتعاليمه ورسائله لأتباعه ورؤيتها للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رأى العين، وتجليهم لها في صحبة زعيم طريقتها عمر حسانين، وبهذه الهلاوس استطاعت أن تحكم قبضتها على أتباع الطريقة، مما دفع زوجة عمر حسانين لطردها من منزلها بالمنيل عندما استمعت لأفكارها، ولكن منال كانت قد حققت أهدافها وسيطرت على عدد من رجال الأعمال الذين انخرطوا في هذه الطريقة من قبل وأصبحت شريكا لعدد منهم في شركاتهم وتوكيلاتهم التجارية.

وفي العام 1994 اشترت الشيخة منال شقة فاخرة في "برج اللؤلؤة" بشارع بورسعيد بمنطقة السيدة زينب بربع مليون جنيه، وقامت بتأسيسها على أحدث مستوى وزودتها بعدد من أجهزة الكمبيوتر ونظامين حديثين للإضاءة والسماعات الداخلية، كما قامت بتبطين الجدران الداخلية للشقة بمادة عازلة للصوت حتى لا تنتقل أصوات من بداخلها إلى خارج الشقة، وجعلتها مقرا لأتباعها الذين بدأت تلتقي بهم في هذا المقر الذي أطلقت عليه اسم (دار السلام العمرية) نسبة إلى زعيم جماعتها وزوجها السابق عمر حسانين، والغريب إن أعضاء جماعتها على درجة عالية من الثراء منهم بعض تجار الذهب ورجال الأعمال وأساتذة الجامعات والأطباء ووكلاء وزارات سابقون.
وظلت المدعوة منال طوال خمس سنوات تخصص يومي الخميس والجمعة لعقد ما يسمى بالمشاهدات لأتباعها الذين يحضرونها جميعا بلا استثناء حيث تروى لهم تعاليم ومطالب عمها عمر حسانين التي أبلغها لها عندما تجلى لها في غرفتها في حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة وأهل البيت كما تزعم، وفي كل رواية تتعالى صيحات وتهليل المريدين، وظل الحال هكذا حتى نجحت أجهزة الأمن المصرية في القبض على أعضاء هذه الجماعة، وضمت السلطات لأحراز القضية أشرطة لاجتماعات الشيخة منال مع أتباعها، وهي التسجيلات التي صادرتها النيابة العامة وقدمتها إلى المحكمة.
(المهدي المنتظر 2010) يظهر في الفيوم
والأنبياء المزيفون لا حصر لهم، ومازلنا نستيقظ على نبي جديد، آخر هؤلاء شاب اهتم به الإعلام ودشن له الحوارات، فقد شهدت قرية "الصبيحي الغربي" بمركز "يوسف الصديق" بالفيوم، ظهور شاب ثلاثيني حاصل على دبلوم تجارة يدعى إنه (المهدي المنتظر)، ويدعي إنه تعرف على المسيخ الدجال ولديه جيش من الملائكة، وإنه يعلم الكثير من الحقائق الخفية، والغريب أن أسرته مقتنعة بما يقول، وجميعهم ينتظرون نزول سيدنا عيسى لقتل المسيخ الدجال ونشر الإسلام في الأرض.
هو محمد عبد التواب رمضان، الذي يعمل مزارعًا، وأكد المهدي المزعوم للإعلام على إنه من ذرية الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه)، ويقول بأن ملاكًا جاءه وبشره بإنه المهدي المنتظر، وإنه خليفة الله في الأرض، وإن الفساد سيزول، وستتحرر أراضينا العربية المغتصبة ومنها القدس والعراق، وكانت ويضيف النبي المزيف إن الملاك كشف له أن المسيخ الدجال هو عمه، وأكد له أن العم المذكور من نسل فرعون.
واستشهد النبي المزيف بتوصيف الداعية محمود المصري للمهدى المنتظر، حيث أكد المصري من خلال إحدى خطبه أن المهدي له جبهة عريضة، متوسط القامة، أسود العينين، له أنف مدبب وطويل، ويتراوح عمره بين الثلاثين والأربعين، وأن اسمه محمد عبد الله، لذا يرى النبي المزيف أن تلك الأوصاف تنطبق عليه، ولا يرى اختلافًا في اسم الأب، فلا فرق بين عبد الله وعبد التواب على حد قوله.
والآن ينتظر النبي المزيف نزول سيدنا عيسى ليقضي على الفساد، و"على غير المسلمين وتحرير فلسطين والعراق"، "قريبًا جدًا".

أمريكا تخشى العفاريت





عفاريت الإنترنت:
أمريكا أقوى دولة في العالم تخاف من العفاريت


- عندما أرهبت العفاريت الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض
- الاستخبارات الأمريكية تبحث عن حقيقة (إبراهام لينكولن)
- قصة الأرواح التي طردت مصريًا من منزله بعد 50 يومًا من الحرائق


كنت قد دخلت في سيجال مع الزميل وليد الغمري رئيس التحرير، حول ما يعرف بـ (علم الباراسيكولوجي)، أو علم ما وراء الطبيعة، وتساءلنا هل الخوض في مثل هذه الموضوعات خلال (الملتقى الدولي الجديد) لا هدف منه سوى تسلية القاريء العزيز، وتقديم وجبة مثيرة وساخنة من الكتابة؟!، وفي النهاية قررنا أن نخوض التجربة بشكل علمي، فهو علم معروف على مستوى العالم، ولدينا الكثير من الظواهر التي تستحق بالفعل التعاطي معها، وارتأينا أيضًا إن مثل هذه الموضوعات ستفتح النوافذ، وترفع الجسور لنتلاقى معك، فكلنا نعمل من أجلك أنت، عزيزي قاريء صحيفتنا الغراء، فاسمحوا لي أن أسبح معكم خلال السطور التالية في عالم يكتنفه الغموض ولا يخلو من إثارة:
صدق أو لا تصدق، أمريكا أقوى دولة في العالم تخاف من العفاريت، هذا الكلام ليس على سبيل المزاح ولا حتى المبالغة، ففي العام 1998، وفي عصر الإنترنت والتنزه على سطح المريخ، وفي أكثر الدول تمسكًا بالعلم، وأكثرها تقدمًا، جرت تحقيقات أمنية رفيعة المستوى شارك فيها جهاز الأمن القومي لمعرفة حقيقة الأشباح التي تداهم البيت الأبيض، وقتها كان كلينتون هو رجل المكتب البيضاوي والمتربع على عرش العالم، ولكم يتضح هدف الأشباح التي ارتعب منها كلينتون، الذي كان مغرمًا بأشباح أكثر جمالاً وأنوثة على شاكلة مونيكا لونيسكي صاحبة الفضيحة التي لا تقل عن فضيحة وتر جيت!!.
وبغض النظر عن سخرية بعض الأمريكان – وقتها – من قصة عفاريت البيت الأبيض، وعما ذهب إليه البعض من إن قصة العفريت مفتعلة لإبعاد الناس عن قصة العفريت الأكبر كلينتون وعلاقته الغرامية في مقر الحكم!!.
وبعيدُا عن شبح البيت الأبيض، يقال أن العفريت انتشرت في أرجاء المعمورة، بدءًا من واشنطن وحتى جامعات لندن العريقة التي حظيت بشهرة كبيرة في صناعة العقول، وكم أفرزت من علماء أجلاء، ومنها جامعة أكسفورد الأشهر بين جامعات العالم المتقدم، ومرورًا عاصمة النور باريس، وكيف لا وهي المعروفة سلفًا ببلاد الجن والملائكة.
ومادام هذا هو واقع العفاريت التي عربدت في دول العالم المتقدم، فما حال دول العالم المتخلف الفقير؟!، بالطبع لم يتركها العفاريت وشأنهم، ولم تعطف عليهم رغم البؤس المرتسم على السحن التي تعاني العوز والمرض والحكومات، فعلى سبيل المثال كان لنا موعد مع العفاريت في قرية من قرانا المصرية ايسمها (سيد خميس)، ولا أعرف سر التسمية لكن ما أعرفه هو أن حرائقًا غامضة اشتعلت على مدار خمسين يومًا حولت بيت المواطن التعس المدعو السعيد يحيى إلى رماد، ففر هاربًا بحياته، تلك الحرائق أعزاها الأهالي من شهود العيان إلى العفاريت، ولم يستطع أحد تكذيب ادعاءات الأهالي بعد أن فشلت الجهات الأمنية في الوصول لأسباب غير ميتافيزيقية لتلك الحرائق البشعة واسعة المجال في قرية لا يستخدم أهلها أجهزة تكييف عملاقة ولا ماكينات تستدعي وجود أسلاك الضغط العالي المشهورة بالصواعق والحرائق!!، كما تأكد للأهالي أن العفاريت هم أبطال تلك الحرائق المتواصلة، والتي ظلت تحدث لثلاث مرات يوميًا على مدار خمسين يومًا بالفعل، خاصة عندما حكى لهم السعيد صاحب البيت إنه يعزو تلك الحرائق إلى ذبحه لقط أسود وجده يسرق طعام أولاده ذات ليلة، ولابد – وفقًا لاعتراف السعيد – أن هذا القط كان جنيًا ظهر له على هيئة قط.
والسؤال الذي أطرحه الآن: كيف يستقيم الحديث عن عفاريت في القرن الواحد والعشرين؟!، وهل هي مجرد خرافات بعيدة الغور في نفوس البشر من الإنس، والذين لابد لهم من وجود (القرين)، بغض الطرف عن قصة القرين على طريقة حسن حسني ومحمد هنيدي في مسرحية (حزمني يا)!!.
الأنس والجن
ونبدأ من الأسطورة الرائجة في معظم ثقافات الشعوب منذ آلاف السنين، فالسنون مرت ولا تزال الأجواء الميتافيزيقية تحيط بالكرة الأرضية، وتقول الأسطورة أن حواء وضعت الكثير من العيال في جنة عدن، وحسب الأسطورة أرادت حواء الاحتفاظ بأكثر عيالها جمالاً بعيدًا عن آدم، في مكان ما، تأتي إليه كلما طاب لها أن تستمتع بالنظر لعيالها، وذات مرة جاءت إليهم فلم تجدهم، وراحت تبكي حينما علمت أنهم تحولوا لعفاريت تحت الأرض عقابًا لها، وهنا تؤكد الأسطورة أن ثمة أخوة بين بني الجن وبني البشر!!.
وفي كتاب صيني يعود إلى ما قبل الميلاد بنحو 1700 سنة، ومعنون بـ (لا تخافوا الأشباح)، تأكيدات على أن العفاريت مخلوقات لا حول لها ولا قوة، ومحاولاتها لإخافة بني البشر محاولات يائسة لإثبات وجودها في العالم الذي خرجت منه عنوة، ويرى الكتاب إنه من الضروري أن يتعاطف الإنس مع الجن المغلوب على أمره!!.
وهناك شعوب تنظر للعفاريت نظرة أخرى، فلا وجود لمن يستطيع أن يواجه العفاريت مثلما فعل (المارد) الصيني الجبار قديمًا وحديثًا، فعلى الرغم من المثل الشعبي المصري (لا عفريت إلا بني آدم)، هذا المثل الذي يؤكد الأسطورة سالفة الذكر، نجد المصريين القدماء من أكثر شعوب العالم القديم مخافة من الأرواح الشريرة، فكانوا يتحاشونها بكل السبل، بدءًا من تعليق سنابل القمح على أبوب البيوت حتى لا تصيب الأرواح الشريرة سكانها، إلى وضع الأحجبة والتمائم مع الموتى في قبورهم، حتى لا تصيب الأرواح الشريرة الموتى بسوء خلال رحلة الموتى للعالم الآخر!!.
وفي ذات السياق اخترع الأمهريون القدماء (الزار)، المعروف في منطقة الشرق الأوسط بأسره، رغم اختلاف المسمى، منها (الطبوب) وغيرها، والغرض من الزار علاج من تلبستهم الأرواح الشريرة، وخاصة النسوة، حيث يدخل العفريت في جسد المرأة (المربوحة) أو (المسمومة) أو (الملبوسة)، حيث يسيطر العفريت على تلك المرأة، فيتم تلطيخ المرأة المسكونة بالدم، حتى ولو كان دم دجاجة تذبح تحت أقدام تلك المرأة، وتتصاعد دقات الدفوف والتمتمة والصياح والحركات التشنجية من كل الحضور في طقوس معروفة ومتوارثة سيما في مصر، وجدير بالذكر أن الصحافة بشكل شبه يومي تطالعنا بحوادث وكوارث أبطالها من العفاريت، ولا حكم للقانون والدستور على عفريت، إلا قاعدة (دستور يا اسيادنا)، و(ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم)، و(واللهم احفظنا)، وخلافه!!.
عندما يتفوق البشر
ويرتعب كافة البشر من العفاريت والجن والأرواح باستثناء الصينيين في كتابهم الذي ذكرته من قبل، ولدينا من المصادر الكثيرة التي أكدت تفوق البشر أحيانًا، ومن تلك المصادر القرآن الكريم، حيث نسب إلى بشر أعمالاً خارقة تعالت فيها الإرادة الإنسانية على القوى الميتافيزيقية الخفية والغامضة، ففي القرآن الكريم مثلاً نجد قصة سليمان الحكيم (عليه السلام) مع عرش بلقيس، عندما أراد سليمان الذي سخر الله تبارك وتعالى الجن ليشهد عرش ملكة اليمن، فطلب من الحضور في مجلسه، ومنهم الأنس والجن، أن يأتوه بالعرش، فقال له أحد الجن الحضور ما معناه إنه يستطيع الإتيان له بعرش بلقيس قبل أن يقوم من مجلسه، فيما أكد بشري ممن عندهم علم الكتاب لسليمان إنه يستطيع أن يفعلها خلال طرفة عين!!.
على أية حال، استمرت العلاقة بين البشر والعفاريت غامضة، فظهرت في آداب العالم على شكل روايات وملاحم أشهرها (حكايات كانتربري) التي كتبها القس الإنجليزي جيوفري تشوسر في القرن السادس عشر، ومعظمها دارت حول العفاريت ومواقفها مع البشر، وهي تشبه إلى حد كبير الحكايات التي جبل على سردها العالم القديم والحديث!!.
وتلك الحكايات تذكرنا بحكايات مصرية مثل حكاية (أبو رجل مسلوخة)، و(أمنا الغولة)، وسواهما من أماثيل التراث المصري الخصب الحافل بحكايات تبعث على الرعب مازالت تحكى للأطفال عن طريق الأمهات والجدات بحثًا عن الإثارة، والتلذذ بالغموض والبعد عن الواقع المعيش، أو حتى من أجل تخويف الصغار، وأرى أن تلك الحكايات لم تعد قادرة على تخويف الأطفال الذين يجلسون أمام التلفاز يشاهدون أفلام الرعب والمصارعة الحرة بتلذذ غريب يستحق الدراسة.
وعلى صعيد آخر، كانت هناك أعمال أدبية تستهدف السخرية من العفاريت، بالصرف النظر عن الأعمال العالمية التي أسبغت نوعًا من الاحترام على العفاريت والأشباح والأرواح الشريرة، مثلما فعل الكاتب الإنجليزي الأشهر وليم شكسبير في مسرحيته التي تعاطها العالم (هاملت)، حيث أخبرت الأرواح الأمير هاملت التعس بسر العلاقة الشائنة بين أمه وعمه وراح ضحيتها أبوه، تلك الوشاية من الأرواح التي دفعت الأحداث إلى حمَّامات الدم!!.
وفي (دون كيشوت) للإسباني ميجيل دي سرفانتس يحارب الفارس النبيل – المخبول – طواحين الهواء على إنها مردة وأرواح شريرة، ويركب بغلة عجفاء ضعيفة مستضعفة رافعًا سيفًا خشبيًا لا يختلف عن عود حطب يهش به راع على غنمه، في وجه تلك الأرواح التي تريد – حسب ظنه - الشر لبني الإنسان، ويفجر ميجيل دي سرفانتس في رائعته بركانًا من السخرية اللاذعة من أوهام البشر.
أما الفرنسي فولتير في كتابه (كانديد)، فكان ساخرًا للغاية، متطرقًا إلى لجوء محاكم التفتيش الكنسية لحرق الهراطقة ومنهم رجل جرؤ على أكل أمعاء دجاجة، في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة تحرم على أبنائها ذلك، كما أحرقت امرأة فقط لأنها (ملبوسة) بعفريت!!.
قوى من العالم الآخر
وهنا نأتي إلى نقطة بالغة الأهمية والخطورة في سيرة العفاريت على وجه الأرض، وعبر كل العصور، ومن ذلك قيام بعض الأشباح غير مألوفة مستهدفة إزعاج البشر، وبث الرعب في نفوسهم، وهو فيما يبدو نوع من الانتقام تقوم به ا؟لأرواح التي عوقبت بالنزول تحت الأرض، لكي تأخذ بثأرها ممن ينعمون بنور الشمس على سطح البسيطة، وربما تكون هذي الأرواح لقتلى ومغدورين جاءوا للانتقام من قاتليهم، وهي فكرة رائجة في أغلب الشعوب.
ويروي كتاب صدر تحت عنوان (قوى من العالم الآخر) ببريطانيا، للكاتب بريان لين، والكتاب يحكي قصة شبح إنجليزي مخيف يظهر للناس في منزل بعينه منذ العام 1675 وحتى اللحظة الراهنة، شبح يتمتع بطول العمر وربما كانت له عائلة تشاركه هذا المنزل الذي تتوارثه أجيالاً من تلك العائلة العفريتية، وهذا الشبح المسن والعتيق – حسب المؤلف – يظهر لرجل بريطاني يعرفه المقربون بالحكمة والعقل الراجح، رجل يرفض مثل هذه الخرافات، لذا فكان الجميع على ثقة من أن حكايات الرجل المرعبة عن العفريت مديد العمر الذي يظهر له ليس مجرد ادعاءات ولا طريقة للبحث عن الشهرة، خاصة وأنهم كانوا يرون بأنفسهم المنزل المعروف بـ (منزل الأجراس العتيقة) قطعة من جهنم، وعندما يهرعون لإطفائه لا يجدون أية آثار لحريق، ولا يجدون إلا صاحب البيت الذي يحكي لهم عن النار التي لفحته دون أن يراها كما ارتأوها هم من الخارج، فينصرف الناس مندهشين، وتوالت الأحداث الغريبة تتوالى على المنزل فاستشعر الرجل وأسرته باهتزازات عنيفة، وكم لفحته حرارة النيران المستترة، فضلاً عن أصوات النحيب في الساعات الأولى من الصباح، مختلطة بضحكات عبثية لمخلوقات معذبة، وحين أراد صاحب المنزل أن يضع حدًا لما يحدث يوميًا، ففكر ذات ليلة أنم يترك المنزل للأشباح ويفر بأسرته بعيدًا، وحين خلد الجميع للنوم ظل هو ساهرًا في تلك الليلة حتى ظهر له عفريت على هيئة نار، وطالبه العفريت بالاطمئنان، وأخبره إنه عفريت مظلوم وغلبان، ولن يتعرض له بسوء، فتغلب الرجل على خوفه، وسأل الشبح عما يريده، فأجابه الشبح بأنه قتل مذبوحًا في هذا المنزل في العام 1675، وأن روحه المعذبة مازالت هائمة ليتسنى له إرشاد شخص عن كنز دفنه في مكان ما قبل أنم يقتل، وتم العثور على الكنز في أحد شوارع بريطانيا بعد أن صرح الشبح لصاحب البيت بمكان الكنز، وهو عبارة عن كمية من العملات الأثرية الذهبية!!.
شبح ديانا الجميلة
وهناك أشباح عالمية، مثل شبح الأميرة المصروعة ديانا التي لاقت حتفها في العام 1997 بصحبة دودي الفايد، في حادثة قيل أن الاستخبارات البريطانية هي التي دبرته، أما عن قصة شبح الأميرة التي أطلقوا عليها في حياتها أميرة القلوب، فقد أوردت صحيفة (الأندبندنت) الأشهر بين صحف بريطانيا ذات المصداقية، أقوالاً لخمسة أشخاص أكدوا أنهم رأوا شبح الأميرة في رواق بقصر سان جيمس، وأضافوا إنها كانت تظهر على الجانب الأيمن للوحة عملاقة لطليقها الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا.
وفي واشنطن، وبالتحديد في عهد كلينتون كما أسلفت، ظهر شبح الرئيس الأسبق أبراهام لينكولن يتمشى منتشيًا في أحد الممررات مكررين بذلك ما سبق تأكيده من ظهوره في العام 1985، وكأنه يريد أن يحكم أمريكا من جديد.

عفوًا.. دعنا نعتقلك بعض الوقت














في أكثر من ستة عقود:
(ملوك) السجن و(عجينُه)


ما نسمعه اليوم عن مارينا طرة، والفخفخة التي يعيش فيها زبانية مبارك من لصوص الأوطان، والتي لا يراها أي سجين في المحروسة حتى لو كانت تهمته سرقة رغيف يسد به رمقه في سنوات الجوع الطويلة إبان حكم الطاغية آخر الملوك الجنرالات، كانت الدافع لهذا لكتابة هذه السطور، فلندرك أولاً أن السجون في مصر تصنف المساجين إلى "ملوك" و"عجين"، لا من حيث التصنيف الجنائي لما ارتكبوه من جرائم، والدليل أن السفاح حبيب العادلي يعيش الآن في محبسه المكيف بعيدًا عن عدسات الكاميرًا حفاظًا على صورة جزار قتل الأبرياء في وضح النهار بعد 13 سنة تابع انتهاك حرمة البشر وسحلهم وسحقهم بتلذذ يليق بمريض سيكوباتي، وزعيمه المخلوع - الذي آهان المصريين خلال ثلاثين عامًا أسس فيها لدولة بوليسية، انتهكت فيها الأعراض في أقسام الشرطة ومقرات أمن النظام المعروفة بأمن الدولة - يعيش في مشفى سياحي بمدينة شرم الشيخ التي يعتقد مبارك إنها مسقط رأسه وإرثه من أبيه، كما يعيش رجالات نظامه في أبهة بعد تحويل عنابر سجن المزرعة لمنتجع يضم الفقي وجرانة وعز ونظيف وغيرهم من الأجلاف الذين أذاقوا المصريين المرار، ونهبوا أموال الشعب المكلوم، كلهم يعيشون في السجن ملوكًا فوق العادة، للسجن في الحروسة دومًا (ملوكه) و(عجينه)، والعجين تسميه جاء بها الكاتب الكبير وحيد حامد تعبيرًا عن القاعدة العريضة من المساجين الذين لا يشعرون بأي من مظاهر الحياة داخل السجون المصرية، بل بعضهم يتحمل مسئولية خدمة ملوك السجن وباشاواته، الذين دخلوا السجن كبارًا وظلوا طوال فترة عقوبتهم هكذا، لهم ما يريدون، وبعضهم كانوا في السجن مثار حسد لغيرهم من الأحرار خارج أسوار السجون.
في البداية أوضح مدى الصعوبة في إتمام تحقيق صحفي موضوع يقتضي اختراق جدران السجون، خاصة في بلد يتحفظ في مثل هذه الموضوعات، والخارج من السجن عادة ما يرغب في التكتم على تفاصيل حياته داخل السجن، أولا لأنها ذكريات غير طيبة، وثانيا حتى لا يعود إليه ثانية، ففي كتاب صدر بعنوان "السجين" يكشف الكاتب الصحفي محمد منير أسرارًا مثيرة حول تاريخ المعتقلين السياسيين المعاصرين في مصر، وأسباب اعتقالهم أو سجنهم، والتنظيمات السرية أو العلنية التي كانوا ينتمون إليها، ومدى تناقضهم مع السلطة منذ بداية ثورة يوليو العام 1952، وقد نجح منير في استدراج أقطاب العمل السياسي ورموز الفكر والأدب للحظات صدق مع النفس باحوا فيها بالكثير من التفاصيل الهامة عن تجاربهم في السجون والمعتقلات، وكشفوا العديد من الأسرار حول المسكوت عنه في علاقة المفكرين بالسلطة، ونقدر الجهد الذي بذله الكاتب في إنجاز هذا الكتاب، فلعلنا نلاحظ أن قليلا من الكتاب الصحفيين ينجحون في التنقيب عن أسرار عالم السجون والمعتقلات خاصة السياسية، من خلال أبطال هذا العالم أنفسهم بسبب تعذر هذا الأمر في كثير من الأحيان وتردد كثيرين في الكلام أو النبش في ذكريات الماضي كما أكدنا سلفًا، إما بحثا عن الهدوء، وإما تفاديًا للاصطدام بالسلطات أو التسبب في أي حرج لشخصيات أخرى يرد ذكرها في تلك الذكريات.
قد يظن البعض أن سجن رجال الأعمال لا يختلف كثيرًا عن سجن باقي المجرمين أو المتهمين من أبناء الشعب بحجة أن الكل أمام القانون، قد يعتقد أن سجن مصطفي البليدي، وحسام أبو الفتوح، وأحمد الريان، ورجب السويركي، وحامد محمود، وماهر الجندي، ومحمد الوكيل، كان صورة طبق الأصل من سجن وحيد مهران، ورؤوف علوان، أو حتى سجن زكي قدرة، أو عادل إمام في فيلم حب في الزنزانة، قد يظن البعض أن سجن رجال الأعمال ذل ومهانة وقلة كرامة، وأن توفيق عبده اسماعيل كان ينام في زنزانة متر في متر، وأن مرتضي منصور، ويوسف عبد الرحمن كانوا ينامون علي البرش، الحقيقة أن سجن رجال الأعمال والكبار من أصحاب الحظوة دائمًا يختلف كليًا عن سجن الغلابة، الاختلاف كبير، مثل اختلاف ضاحية الزمالك عن حي منشية ناصر، سجن رجال الأعمال هو سجن الملوك، وهم بحق نجوم وملوك السجون، سجنهم فرفشة ونعنشة وسحابة صيف، ولكن بدلاً من قضائها في مارينا أو مارقيا أو ماربيلا، يقضيها الملياردير رجل الأعمال في فنادق خلف الأسوار، والحق تمتلأ السجون المصرية برجال أعمال لا حصر لهم، بالإضافة إلي فئات أخرى نطلق عليها معشر الصحفيين "علية القوم" من أصحاب المليارات والطائرات الخاصة والقصور والقرى السياحية، ناهيك عن المناصب المرموقة التي احتلوها في غفلة من الزمان، تؤكد الوقائع أن سجن ليمان طره ضم مشاهير الفن والرياضة والثقافة، سجن بين جدران لواءات وقضاه ومحافظون ومستشارون ورجال أعمال، منهم من خرج على قدميه، ومنهم من خرج على ظهرة، دخل ليمان طره رجل الأعمال الشهير ووزير السياحة الأسبق توفيق عبده إسماعيل، والمحامي العام ومحافظ الغربية والجيزة الأسبق المستشار ماهر الجندي، ووزير المالية الأسبق محيي الدين الغريب، وعاش بين جدران ليمان طره مطرب الشباب المتهرب من التجنيد والمزور في محررات رسمية تامر حسني، والنائب الأشهر خالد محمود، وأحمد الريان صاحب أشهر قضية توظيف أموال في مصر والعالم العربي، أما مرتضي منصور، ومحمود الوكيل، وأيمن نور، فكانوا أشهر من النار على علم في سجن ليمان طره، ورجال الأعمال وكبار المسئولين في ليمان طره لهم معاملة خاصة، ينعمون بحظوة كبيرة، وكأن التيجان على رؤسهم.







خالد محمود
النائب خالد محمود، أحد مشاهير رجال الأعمال، قام بترميم وتجديد دورات المياه بسجن ليمان طره حتى تحولت هذه الدورات من مكان للأمراض والأوبئة إلى واحة تبعث على الراحة، وعلى نفقته الخاصة، أيضًا قام بإحلال وتجديد مستشفى السجن حتى اقترب من مستشفى "مكيفلاند" بأمريكا أو "دار الفؤاد" الذي يمتلكه وزير الصحة الأسبق في مصر، ورغم ذلك يقال لنا أن مشفى طرة لا يصلح لاستقدام المخلوع.
محمد فؤاد المهندس
أما محمد نجل الفنان الراحل فؤاد المهندس، فقد فاز بكل تركة والده التي جمعها طيلة عمله لأكثر من 60 عامًا في الفن، وقام على الفور بعد حصوله علي الأموال بإنشاء ملعب للتنس داخل سجن ليمان طرة ليمارس هوايته القديمة التي تعلمها من أصدقاء والده أمثال الفنانين الراحلين شكري سرحان، وفريد شوقي، وتوفيق الدقن، ومن الأحياء الفنان العالمي عمر الشريف، وبذلك اعتبر محمد فؤاد المهندس ملاعب التنس بين أسوار السجن بمثابة صدقه جارية علي روح والده.
رجب سيد السويركي
من ملوك السجن رجب سيد السويركي صاحب محلات "التوحيد والنور" المتأسلمة، والذي دخل السجن في قضية تزوير بمحررات رسمية حتى يتمكن من عقد قرانه الخامس على امرأة وهي لازالت في العدة، عندها أبلغت عنه إحدى زوجاته، والتي استطاعت استخراج وثيقة طلاق تؤكد أن الزوجة الجديدة لا زالت تقضي شهور العدة، وبالفعل أثبتت التحريات صحة الأوراق، وقامت بإلقاء القبض عليه وإيداعه السجن بعد اتهامه بالتزوير في أوراق رسمية، وتابع أعمال شركاته أولاً بأول تمامًا كما يفعل الآن أحمد عز الذي يتربح كل يوم من أعماله الاحتكارية رغم وجوده بطرة، وكانت التقارير والصادرات والواردات والصفقات والأرباح والخسائر تأتي إلى السويركي وكأنه يعيش داخل مركز تجاري أو في الغرفة التجارية بالقاهرة أو اتحاد الصناعات، إلا أنه كما تقول إحدى المصادر المقربة جدًا منه – لم يتخل إبان سجنه عن عشقه الكبير للجمبري بالفريك والمكرونة بالبشامل وجميع الأطعمة المقوية جنسيًا، والحق يقال، فالسويركي رجل كريم حتى أطلقوا عليه داخل السجن "حاتم الطأش"، فلم يثبت أنه أكل بمفرده ولو لمرة واحدة، وذلك لأن ابنه كان يزوره يوميًا – فلا مواعيد لزيارت ملوك السجن - ويأتي له بما لذ وطاب من الطعام والفاكهة، ودائمًا ما كان يدعو محمد الوكيل - رئيس قطاع الأخبار الأسبق - ليتناول معه الأكلات الدسمة، وبعد خروج محمد الوكيل بدأ السويركي يجالس أحمد الريان - صاحب أكبر قضية توظيف أموال في مصر - حيث تقترب ميولهما التجارية والاقتصادية ودراسة البورصة والأسواق، كما تقترب الميول الغذائية، فكلاهما يحب الأكلات المقوية للقلب والأعصاب علي أمل الخروج والزواج مرارًا وتكرارًا، والتمتع بزينة الحياة الدنيا.
المستشار ماهر الجندي
ولا ننسي في معرض حديثنا عن ملوك السجن المستشار ماهر الجندي والذي خرج من السجن بعفو رئاسي لقضائه نصف المدة، فقد كان الرجل محام عام، ومحافظًا للغربية والجيزة، وهو المستشار الوحيد الذي لا زال مصرًا علي براءته، وأن قضية الرشوة التي دخل بسببها السجن كانت ملفقة، أو على الأرجح بفعل فاعل، ومع ذلك صبر الرجل، واحتسب كل ذلك عند الله إلى أن جاء الفرج وخرج بعد انقضاء نصف المدة على حد قوله لوسائل الإعلام ومازال يقول، وبعيدًًا عن تلك القضية فالجندي له أيام عمله في القضاء قصصًا وروايات يحكيها بعض المعتقلين المشاهير عن طغيانه في التحقيقات، والمثير في سجن ماهر الجندي أنه ظل يؤمن بالبراءة والعدالة ونزاهة القضاء حتى آخر لحظة، والدليل أنه اشتهر بين المشاهير في السجن بارتداء الروب الخاص به، والذي يشبه إلى حد كبير وشاح القضاة وروب المحامين، أي أنه كان يمزج في زيه بين القضاء الواقف والقضاء الجالس، كما أنه رغم تواضعه المادي لم يتخل في يوم من الأيام عن أناقته المعهودة وتواضعه الجم، فكان يستيقظ من نومه ويتريض في حديقة السجن، ثم يمسك خرطوم رش المياه ليسقي الزرع والورد وأشجار الفاكهة في الحديقة، وكان بمثابة المستشار القانوني والقلب الرحيم لكثير من زملائه أو أصحابه من اللواءات أو القضاة أو حتى رجال الأعمال، ولتأكيد أناقته أكد المقربون من ماهر الجندي أنه كان يمسك مسبحة غالية الثمن، ويلبس ساعة يد أنيقة، كما أنه حافظ طيلة أيامه في ليمان طره علي حسن مظهره، ولم ينس يومًا مناصبه.
يوسف عبد الرحمن
ومن أشهر نزلاء سجن ليمان طره، من ملوك السجن، يوسف عبد الرحمن التلميذ النجيب والطفل المدلل لوزير السرطان يوسف والي، يوسف أطلق عليه زملاؤه لقب "البرنس" لأنه يعيش فعلاً دور البرنس، ويحافظ على صبغة شعره وشاربه، كما كان يرتدي في السجن الملابس "السينييه"، وقال المقربون الكثير عن نهمه الكبير للمشويات والمقويات، وحرصه على متابعة ما تنشره الصحف وتبثه نشرات الأخبار، ويتابع أخبار وزارة الزراعة في ظل أمين أباظة ومن قبله أحمد الليثي بشغف، ومن المعلوم أن البرنس يوسف عبد الرحمن كان قد تم إلقاء القبض عليه بعد تحريات موسعة من قبل الرقابة الإدارية، وتم سجنه في قضية إهدار المال العام، واستيراد مبيدات مسرطنة، كما اتهم بالرشوة الجنسية و"الزيس"، وهي القضية التي شغلت الرأي العام كثيرًا بعد دخول اسم السكرتيرة الخاصة به راند الشامي في ملف القضية، والتي لا زالت عالقة في الأذهان حتى الآن.
حسام أبو الفتوح
أما حسام أبو الفتوح فهو ملك آخر بلا تاج من ملوك السجن، وقد ارتبط اسم الرجل بكثير من الفنانات، أبرزهن علي الإطلاق الراقصة دينا، وكان ذلك من خلال فيديوهات جنسية تم تسريبها ووصلت إلى تلاميذ المدارس، والغريب، ما قاله الكاتب الصحفي محمود صلاح على لسان المستشار ماهر الجندي عن حسام إبان فترة سجنه، والتغير الكبير في شخصيته: "نموذج للشخص المثالي، اهتم كثيرًا بالجانب الروحي والديني، وواظب علي الصلاة في جماعة، وكان يؤم الناس في كل الأوقات، ويخطب الجمعة"، والجميل في شخصية حسام أبو الفتوح الجديدة، كما ذكر محمود صلاح: "إنه كان يساعد السجناء في صمت، ويتكفل برعاية أهاليهم خارج السجن، كما كان يوزع الطعام علي كثير من المساجين، وذلك نظرًا لكميات الطعام الكبيرة التي كانت تأتيه من الخارج"، سبحان مغيِّر الأحوال.
هشام طلعت مصطفي
ومن هؤلاء الملوك رجل الأعمال هشام طلعت مصطفي "المتهم الثاني في قضية مقتل سوزان تميم"، والذي سبق أصدقاءه من المسئولين ورجال الأعمال إلى طرة، فيقول أحد المعاينين للسجن: "سمحت إدارة سجن ليمان طره لهشام طلعت مصطفي فور القبض عليه بجهاز تكييف وتليفزيون وجهاز كمبيوتر مزود بفاكس، كما سمحوا لسكرتيره الخاص أن يزوره يوميًا من العاشرة صباحًا إلى السادسة مساء للأطمئنان علي سير العمل في مجموعة طلعت مصطفي في سوق العقارات، والاطلاع علي تقارير البورصة المصرية، كما ينعم هشام في محبسه بمكتب مزود بكل وسائل الاتصالات لمباشرة أعماله الإنشائية والتجارية"، وتشير بعض المصادر إلى إن هشام ينعم بغرفة مجهزة بها مكتب وثير، ومجموعة من المقاعد حتى يطمئن ويطلع علي حجم التعاقدات الجديدة، وكذلك الذين انسحبوا من المجموعة بعد اتهام كبيرهم في تلك القضية الشائكة".
الكاتب الصحفي محمود صلاح يؤكد أن سجن ليمان طره كان ولا يزل مركزًا رجال الأعمال والمشاهير من الفنانين والوزراء والقضاة والمستشارين، وهذه الفئات لها معاملة خاصة داخل السجن".
وعن بداية ليمان طره يقول محمود صلاح أن الاحتلال البريطاني استعان بضابط فرنسي كان يجيد اللغة العربية لتصميم السجن، واختار الضابط الفرنسي هذا الموقع ليكون قريبًا من الجبل، والطريف أن المساجين كانوا يقومون بتكسير الحجارة، ثم يقدمون بنقلها إلي مكان إنشاء السجن، بمعنى أن المساجين أنفسهم هم الذين قاموا ببناء السجن، والحق يقال كما تقول الوقائع فقد ألغى الرئيس السادات عقوبة تكسير الأحجار، وقدر أن تكون جميع السجون المصرية فترة "تأديب وتهذيب وإصلاح".
صلاح عيسى
أشهر المشاغبين السياسيين في مصر وزبون قديم من زبائن السجون المصرية، هو الكاتب صلاح عيسى الذي المثقف الذي نشأ بين عدة أيديولوجيات جعلته من أكثر الناس إيمانًا بالتعددية في الأفكار والانتماءات السياسية، مما كان سببًا في أن يخوض صلاح عيسى معارك فكرية عديدة دفع فيها ثمنًا غاليا من حريته وشبابه مقابل تمسكه بآرائه وأفكاره المتحررة، والسجن الذي قضى فيه عيسى فترة حبسه كان سجنًا خشنًا لا يصلح لاستقبال البشر، أي بشر، حتى ولو كانوا من متعاطي السياسة، والسجناء هناك كانت لهم مشكلات جمة مع النظافة، ومع ما يقدم لهم من طعام، فضلاً عن انقطاع تام مفروض بين السجين والعالم الخارجي، ولقد كشف صلاح عيسى الجوانب المختلفة للظروف والأحداث التي عايشها منذ معارك الأسلحة الفاسدة، ومرورًا بمعارك الاستقلال والأحلاف والتسليح وتأميم قناة السويس ونكسة يونيو 67، وصولاً لصدمته من زيارة الرئيس السادات لكامب ديفيد، وقبل ذلك حياته القروية البسيطة في قريته التي غادرها في العام 1948 وحكاية سماعه لأول مرة في حياته لصافرات الإنذار وأصوات المدافع المضادة للطائرات في أول زياراته للقاهرة، كما يحكي عيسى عن بداية علاقته بالسياسة منذ شارك في أول مظاهرة العام 1950، وهو مازال طالبًا بالسنة الأولى بالمدرسة الخديوية الثانوية، وكانت هذه المظاهرة تهتف ضد وزير الداخلية وقتها فؤاد سراج الدين وتطالب بسقوطه، ويكشف عيسى سرا هاما في حياته، وهو أنه من عائلة ذات انتماءات سياسية متنوعة ومتناقضة، فوالده كان وفديا وعمه عضوا في حزب مصر الفتاة، وأبناء عمومته كانوا من الإخوان المسلمين، ومن هنا كانت مسيرة صلاح عيسى لها خصوصية، وعن محطة اعتقاله لأول مرة في عصر الرئيس جمال عبد الناصر وملابسات هذه الفترة وانضمامه إلى تنظيم شيوعي سري، وانسحابه منه وألوان التعذيب التي ذاقها في سجن القلعة، بعد أن تم القبض عليه يوم عيد ميلاده، هذا السجن الذي يعني منه النزل حتى ولم يمارس ضده أي صنوف التعذيب، فمجرد الحياة داخل جدران جحيم لا يوصف، ففي تلك المرحلة كان المعارضين يعيشون في السجون عيشة غير آدمية بالمرة، ذاقها عيسى وأقرانه من كل الفصائل، ولا تتسع الأوصاف للوقوف على بشاعة المعتقل، وسوء الإضاءة التي تصل في بعض الأحيان للعتمة، والتجرد من الأدوات التي يمكن استخدامها حياتيًا، وكذلك تجربة اعتقال عيسى الثانية بعد مرور سنة واحدة على الإفراج عنه بعد الاعتقال الأول، وكان ذلك في العام 1968 بتهمة التحريض على المظاهرات، يومها قال عبد الناصر عن عيسى: "الواد ده مش حـ يخرج من السجن طول ما أنا عايش"، وذلك عندما تدخل خالد محي الدين للإفراج عنه باعتبار عيسى محسوبًا على اليسار، ويحكي عيسى حكايته مع الرئيس الراحل أنور السادات وسر استدعائه أكثر من مرة للنيابة قبل صدور قرار القبض عليه في العام 1977، وتفاصيل تمكنه من الهروب لمدة 10 شهور إلى أن تم القبض عليه، فيعترف صلاح عيسى بكل فخر بصحة ما تردد بأنه كان أول عربي توجه إليه تهمة القيام بعمل عدائي ضد إسرائيل في العام 1981، وتأثير هذه التهمة في تعرضه للاعتقال في حملة اعتقالات سبتمبر من العام 1981 التي دخل فيها السجن ضمن 1536 شخصية، وأوصاف السجن وقتها تتجلى فيما كشفه عيسى من المفارقات حيث تم اعتقاله مثل في زنزانة واحدة في اعتقالات 1981 مع فؤاد سراج الدين الذي كان يهتف بسقوطه في العام 1950، وكأنه يشير إلى سياسة السجن في الجمع بين خصمين في زنزانة واحدة، ولم يكن أبدًا عيسى من ملوك السجن الذين كانوا ينعمون بحياة مترفة خلف الأسوار.
وعلى صعيد آخر، تم تقسيم سجن "المزرعة" الأشهر بين السجون المصرية ليكون نموذجًا منفصلاً عن منظومة السجون المصرية، فالمزرعة مقسمة إلي 7 عنابر يسع العنبر في المتوسط 350 فردا بإجمالي 2450 سجينا، وتختلف معاملة إدارة السجن لهذه العنابر حسب الرؤية الأمنية، فعنبر الجنائي خاضع تماما لسيطرة رجال مباحث السجن وإدارته، علي عكس العنابر الستة الأخرى والتي اكتسبت اسمها الرسمي من طبيعة المعتقلين فيها، فهناك - بجوار الجنائي - عنبر الإخوان، وهو مركز احتجاز القيادات الإخوانية، أما العنبر الثالث - عنبر السياسيين - فيضم المعتقلين الذين "تابوا" من الإسلاميين، كما يضم أيضا بعض الكوادر الحزبية، ويأتي عنبر التخابر والذي يحمل الرقم 4 بين عنابر المزرعة كأحد مراكز الاحتجاز الضبابية، حيث تتوارد عنه معلومات متضاربة باستمرار سواء من بعض المعتقلين السابقين أو من منظمات حقوق الإنسان، فهو يضم مزيجا غريبا من المتهمين بالتخابر لصالح إسرائيل وليبيا وإيران، ويعتبر عنبر ضباط الشرطة والقضاة - عنبر 5 - أكثر أماكن سجن المزرعة غرابة وتميزًا، حيث يوجد به - حسب تقرير جمعية مساعدة السجناء - 8 ضباط برتبة نقيب و5 برتبة رائد واثنان برتبة لواء، بالإضافة لعشرة سجناء برتبة ملازم أول، ويفيد التقرير أن العنبر مخصص لاستقبال الضباط والقضاة المتهمين في قضايا الرشوة، وبعضهم صدرت ضده أحكام نهائية بالفعل، ويعتبر هذا العنبر أكثر أماكن طرة تميزا، فكون المساجين من الضباط والقضاة يضفي علي المكان نوعا من التغيير الملحوظ في المعاملة، سواء بتحديد زيارات شبة يومية أو في معاملة إدارة السجن، وتساهلها في إدخال كل ما يريده الضباط من الخارج، فهؤلاء هم ملوك السجون بحق، حيث تأتي لهم الإدارة بلبن العصور، ويعيشون حياة عادية، بل هناك من الأحرار خارج السجون لا يتمتعون بما يتمتع به هؤلاء من سطوة خلف الأسوار، ولديهم كل الكماليات التي يحرم منها غيرهم مما يطلق عليهم "عجين" السجن، عدماء الحيثية، الذين يحيون حياة صعبة لا تليق ببشر، بل يتم استخدام بعضهم لخدمة السجناء الملوك، ويقومون بأعمال تشبه ما يقوم به الخدم خارج الأسوار، فيظل الباشاوات باشاوات حتى خلف القضبان.
أما العنبر "6" يقول عنه رجل – من العجين - كان حبيسًا به في يوم ما - رفض ذكر اسمه – إنه عنبر تأديب يتكون من 7 زنازين انفرادية مساحتها 2 متر في 2متر، بلا إضاءة ولا فتحات تهوية، مع تخصيص إدارة السجن زنزانة كدورة مياه جماعية، وبخلاف العنابر الأخرى يقضي المعتقلون في التأديب حياتهم داخل زنازين مغلقة ممنوعين من التحدث إلي بعضهم، فجدران الزنازين الأسمنتية هي حدود عالمهم بالكامل.
عزام عزام
وبرغم الأوامر المشددة لعنبري التأديب بقطع الاتصال نهائيا عنهم فإن الوضع يختلف حسب الأوامر، فالجاسوس الإسرائيلي عزام علي عزام ومعه الجاسوس طارق عماد الدين، المصري المتهم بالتخابر مع الموساد ونقل معلومات حساسة لإسرائيل، كانا يخضعان لمعاملة خاصة في عنبر التأديب المجاور رقم 7، والذي يتطابق مع عنبر 6 في تكوينه، فيقول مدير جمعية مساعدة السجناء: "الزنزانة التي تقرر نقل الجاسوسين إليها معدة بشكل جيد حيث تتوفر إضاءة دائمة ومياه، كما أن المكان معد بشكل جيد لاستقبال طارق وعزام، والغريب أن سيارة السفارة الإسرائيلية تحضر للسجن يوميا كل ما يطلبه عزام وطارق"، وقد سمعنا كثيرًا عن توصيف لمكان اعتقال عزام، وكلها أوصاف تدفع الأحرار للحقد على عزام الذي أسست له دورة مياه خمسة نجوم، وأثاث ورياش، ووجبات ساخنة وشهية تأتيه من سفارته.
جمال فهمي
وفي إحدى أشهر قضايا الرأي العام، في العام 1998 حكم القضاء علي الصحفي جمال فهمي بالسجن لمدة ستة أشهر قضاها في سجن المزرعة، يقول فهمي: الطريق إلي طرة بدأ من أكبر احتفالية تجمع المثقفين في مصر، من معرض الكتاب حيث توجه الكاتب ثروت أباظة بشكوى علنية ضدي، فبسرعة قياسية بدأت محاكمتي، وحكم علي بالسجن لمدة 6 أشهر قضيتها بمزرعة طرة بعد فترة ترحيل قضيتها في سجن الاستئناف"، ويضيف جمال فهمي: "دخلت عدة معتقلات سابقا كأحد النشطاء السياسيين مثل معتقل القلعة، لكن في طرة رأيت كم التغيرات التي جرت في إدارة السجون المصرية، فبرغم وجودي في عنبر سياسي إلا أن وجودك في السجن يعطيك فكرة عما يدور بشكل حقيقي داخل مصر، مرة سألني أحد الجنائيين الذي تعرفت عليهم عن سبب الحبس، فأجبته: قضية نشر وأخدت 6 أشهر، فأشار لنفسه، وكان نشالا محترفًا: "يعني النشل أحسن من النشر، بقي أنا نشال وواخد 3 شهور بس!"، ويؤكد فهمي في شهادته أن "مصر ثاني أكبر الدول في نسبة المساجين بعد الولايات المتحدة، فكل شيء في مصر محكوم بالمعني الحرفي، فخلال السجن عرفت أنك لو غنيت غلط تتسجن ولو مثلت غلط تتسجن ولو صورت في الشارع تتسجن"، ويتابع فهمي: "السجن هنا ليس مجرد مكان لاحتجاز أفراد خطرين علي أمن المجتمع، كما هي العادة في كل الدول، ففي مصر السجون والمعتقلات هي الموطن الأصلي للمصريين، فخلال 6 أشهر رصدت الشرائح والفئات الموجودة حولي، فوجدت رجال أعمال مع تجار مخدرات وصحفيين معارضين مع رموز الحكومة، ونشالين وموظفين تأخروا في دفع قسط غسالة، فوصلت لقناعة بأن الشعب المصري مطلوب في نظر الداخلية، والغريب أن نفس الشعور وصل لضباط السجن، فكان أحدهم يسب الحكومة ليل نهار مع كل ترحيلة، وحين تكلمت معه أخبرني أن الدولة أنفقت 10 مليارات جنيه لبناء السجون، وأضاف ده جنان رسمي"، ويضيف جمال: "شاهدت هناك حقائق عن تزاوج السياسية والفساد، فأحد المساجين - رفض ذكر اسمه - المتهم في قضية اللحوم الفاسدة في أواخر التسعينيات كان مشهورًا بزياراته الرسمية المستمرة التي قام بأحدها بعض الكبار والوزراء، وحين سألته عن طبيعة العلاقة أجابني: أنا زي ما أنت عارف جزار وتاجر لحوم كبير، وكل عيد لابد يروح لبعض الكبار خروفين ثلاثة من عندي قبل يوم العيد بأسبوع، وبعد ما يستلم المسئول يتصل قبل العيد بقليل ليخبرني إنه لا يملك مكانا كافيا لهذا العدد فاذهب واشتري منه ما سبق أن أهديته له قبل أيام، وتصور في سنة واحدة اشتري 3000 رأس للهدايا ثم أعيد شرائها من الكبار مرة أخرى"، وفي مقابل الزيارات الحكومية فإن زيارات المثقفين ظلت تتم بشكل آخر ففي 25 أغسطس من العام 1998، وأثناء زيارة وفد نقابة الصحفيين لجمال فهمي اعتدى أحد ضباط السجن علي الصحفي يحيي قلاش وعدد من الصحفيين منهم جلال عارف ورجاء الميرغني ومحمد عبد القدوس، وحسب فهمي: "كانت حجة الداخلية أن الضابط مختل عقليًا ولا تجب محاسبته"، يقول فهمي: "عرفت بالخبر في اليوم التالي من الصحف التي سمح بدخولها، وفوجئت بتعرض وفد نقابي علي هذا المستوي للضرب والسحل"، ويضيف ضاحكًا: "رغم العلقة استمر الزملاء في زيارتي حتى خرجت"، لذا لنا أن نقر بأن الصحفيين ليسوا من ملوك السجن أبدًا، ورغم أن أغلبية المتهمين في مزرعة طرة من السياسيين إلا أن الداخلية لا تتنازل عن ولعها بفكرة زنازين التأديب.
نظمي شاهين
يقول نظمي شاهين "أحد أعضاء تنظيم ثورة مصر" الذي ضم خالد عبد الناصر، نجل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر: "السجن سجن ولو في البيت، أنا قضيت 14 عامًا من الحبس الانفرادي المتواصل من سجن لسجن كل واحد في غرفة لمدة 14 سنة، عدا بضعة أشهر كانت كل عهدنا بالحبس الجماعي - نحن الأربعة أعضاء التنظيم فقط - ثم انتقلنا عقب وفاة العميد محمود نور الدين للانفرادي مرة أخري حتى انتهاء المدة في 20 سبتمبر من العام 2002"، ويضيف شاهين: "المزرعة ليست أبدًا سجن خمس نجوم كما يروج البعض، فالواقع أن حديثهم عن السجن بهذا الشكل يعطي مبررًا للداخلية في مزيد من التنكيل بالمساجين، فالحبس الانفرادي لمدة 14 سنة تعذيب يفوق الخيال، مرة سألت نفسي يا ترى أنا لسه باتكلم ولا نسيت الكلام؟، وبدأت أتحدث لنفسي كي لا أفقد القدرة علي النطق، وأصرخ فجأة بصوت عال حتى سمعت الإدارة فخصصت لنا نحن الأربعة أحد أفراد الأمن يأتي إلى كل زنزانة ليتحدث مع كل منا في مكانه حوالي نصف ساعة في اليوم كي لا نفقد القدرة علي الكلام فعليًا، وحين انتقلنا في البداية من أبو زعبل شديد الحراسة لسجن المزرعة، لم أكن أستطيع الجلوس علي كرسي، فطوال 10 سنوات لم أر غير أسفلت الزنزانة، بعد عدة أشهر خرجنا للانفرادي مرة أخري كل واحد في زنزانة خاصة مع وفاة محمود نور الدين، ودخول الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام السجن"، ويضيف شاهين: "لم يكن الإسرائيليون كائنات غريبة علينا، فنحن كتنظيم استهدفنا قتل عملاء الموساد في مصر، ولهذا السبب حكم علينا بالمؤبد، وسبق أن كان معنا تاجر مخدرات إسرائيلي اسمه ياريف خصصت له إدارة السجن مكتب ضابط العنبر كزنزانة بها مكتب وبانيو – من ملوك السجن بصحيح - وكنا نرى باستمرار واردات السفارة ترسل له حتى مجلات البورنو، فضلا عن كل المزايا التي لا تتوافر حتى للضباط"، ويتابع شاهين: "أما عزام فكانت الحالة مختلفة تمامًا، حيث كان وجوده في المزرعة سببًا في العديد من المشاكل، فكان زواره من السفارة، وكذلك طعامه وشرابه وملابسه، وبمجرد أن يبدأ عزام تمارينه الصباحية تتوقف الحياة في السجن تمامًا، وتغلق الزنازين ويتوتر الضباط رغم أنه جاسوس بحكم المحكمة"، ويضيف شاهين عن وفاة قائد التنظيم: "في يوم وفاة محمود فوجئنا بحرارته ترتفع فوق الأربعين، وطول الليل كنا بنعمل له كمادات، ونحاول ننادي علي ضابط النظام بلا جدوى حتى أن محمود نظر إلينا وقد تحول إلي كتلة من المياه قائلاً: كفاية أنا تعبتكم وتعبت، وفي الصباح صادف أنه موعد زيارتي وفوجئت بحمادة شرف يخبرني بالوفاة، وأن مأمور السجن تكتم الأمر، فعدت للزنزانة حتى أتى طبيب برتبة عالية وعدة لواءات، فخشينا نقل الجثمان للثلاجة في أبو زعبل كي لا يشمت عزام - فقد نقلوه لهناك خوفًا عليه منا - فرفضنا تسليم الجثة حتى تأتي النيابة، وسجلت في المحضر أقوالي أن محمود توفي نتيجة الإهمال الطبي الجسيم، وأن الداخلية حاولت التكتم علي الأمر، وإنه ظل طوال الليل يعاني من الحمي، وإنه أصيب بأمراض القلب والغضروف وعرق النسا من النوم على الأسفلت في الانفرادي لمدة 10 سنوات متصلة انتهت بوفاته، فعوقبنا بالنقل من زنزانة تجمعنا نحن الأربعة، وعدنا مرة أخرى للانفرادي كي يعود عزام مرة أخري لممارسة الرياضة في السجن".
كمال خليل
في أواخر تسعينيات القرن المنصرم وقع الآلاف من أعضاء الجماعات الإسلامية علي ما سمي وقتها بإقرار التوبة دون شروط، فصدر قرار بنقل القياديين التائبين إلي سجن المزرعة بعد أن أقروا بالتوبة في السجون شديدة الحراسة، ورغم مكافأة القياديين والتائبين بنقلهم للمرزعة إلا أن توبة الداخلية لم تكتف ببصمة النزيل علي ورقة بيضاء، لكنها تطمح دائما لما هو أكثر، يقول القيادي اليساري كمال خليل "أحد المعتقلين السابقين بالمزرعة": "دخلت طرة عدة مرات منذ العام 1998 علي خلفية تظاهرات القوي الوطنية المناهضة لغزو العراق، وقابلت مجموعة من التائبين في المرتين، وكان أغرب ما شاهدته في المزرعة أحد التائبين من أعضاء الجماعة الإسلامية الذي كان يقوم بدور الإمام في صلاة الجمعة، وفور صعوده علي المنبر يبدأ في الدعاء للرئيس مبارك وللداخلية والنظام ككل، وليس هذا فقط، بل تتحول الخطبة لحفلة سباب ضد أفكار الجماعات الإسلامية نفسها، وكيف أنهم أفسدوا في الأرض وخرجوا عن ولي الأمر إلي آخر هذا الكلام، فدهشت للغاية من هذا الشكل المهين في التعبير عن تغيير أفكاره التي أراها خاطئة، فسألته عن السبب فأجابني: أنا من 3 سنين هنا كل جمعة أطلع علي المنبر أعمل نفس الموال ده وأدعو للحكومة والرئيس والوزير بطول العمر وألعن الجماعة رغم إنني محبوس معاهم، والمصلين أغلبهم منها بيأمنوا علي الدعاء، ورغم ذلك لم يفرجوا عني حتى الآن"، ويضيف خليل: "مرة أخري في العام 1998 ناداني أحد التائبين: يا كمال يا شيوعي، ففوجئت بصوت محمود نور الدين رحمه الله يسب الرجل ويحذره من الاقتراب مني، وكانت له وللتنظيم هيبة وخبرة طويلة بالمعتقل، فسألت محمود: لماذا نهرته، فأنا يساري ولا أخفي ذلك؟، فأخبرني أن نداءه عليَّ بهذا الشكل طريقة لتحريض التائبين ضدي، خاصة أني كنت معهم في نفس الزنزانة، بعدها عرفت أن أهم واجبات التائب أن يكون عصفورًا بالمجان"، وهي صورة جلية لتحول أبناء العنف لأبناء السلطة!!.
جمال الغيطاني
الروائي والكاتب الصحفي جمال الغيطاني له ذكريات أليمة مع الضرب والإهانة وشتى أنواع التعذيب حتى يعترف على زملائه، إلا أنه فضل أن يسلم نفسه للموت على أن يعترف على زملائه، ويحكي الغيطان عن بدايته مع السجن في العام 1966 عندما اقتحموا بيته في الفجر، وظلوا يفتشون من الفجر حتى شروق الشمس قبل أن يقتادوه بتهمة الانتماء لتنظيم "وحدة الشيوعيين"، وكان فيه معظم المثقفين في تلك الحقبة، وهناك في ليمان طرة وجد زملاء كثيرين كان يعرفهم منهم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وصبري حافظ، وسيد حجاب، ويمضي الغيطاني متحدثا عن ذلك المعتقل الذي ذاقوا فيه ألوانا من العذاب، وكيف كانوا ينامون واقفين، وقصة انتقاله لسجن القلعة، واصفا أحاسيسه وخوفه من المجهول الذي كان ينتظرهم، وهو يركب سيارة الترحيلات وشعور الخوف الذي انتابه مما سيلاقيه من العذاب في هذا السجن المرعب، وكيف أنه كان يعد نفسه لهذه اللحظات العصيبة، ثم حكاية تحول اسمه إلى رقم "37"، وهو رقم الزنزانة التي حُبس فيها حبسا إنفرادنا، ويكشف عن وقائع التعذيب بالكهرباء والضرب بجنون وحكايته مع "العسكري الأسود"، وهو أحد السجانين المتخصصين الذي كان يضرب العساكر وهم عرايا، واغتصابهم.
رفعت السعيد
14 سنة خلف القضبان، هذه الفترة ضاعت من عمر الدكتور رفعت السعيد مقيدة حريته في السجون والمعتقلات كأصغر سجين سياسي في أول قضية شيوعية بالدقهلية، يشارك فيها حيث كان عمره وقتها 15 سنة، ويكشف السعيد نادرة من نوادر تلك الفترة في حياته فقد كان عمه هو خاله، ولذلك اعتبره الناس في قريته "بركة"، كما تأثر السعيد بذكرى جده الشهيد الذي راح ضحية حكومة صدقي باشا، ويمضي مستطردا ذكرياته كأصغر سجين في عنبر "20" في معتقل الهايكستب، وتجاوره لزنزانة زعيم الصهيونية في مصر آنذاك "أوفاديا سالم"، ثم ينتقل لتوضيح تفاصيل اعتقاله للمرة الثانية في العام 1952، وعمره كان 18 سنة، وخروجه بعد يومين بفضل الرشوة التي دفعها والده ثمنا لخروجه حتى لا تضيع عليه السنة النهائية في التوجيهية، ثم حكاية القبض عليه هو ووالده دون ذنب، وتعرض رفعت للتعذيب وسر كتابته لأدلة إدانته بخط يده ليقدمها للمحكمة، كما يفصح السعيد عن رفض الإفراج عنه ضمن من أُفرج عنهم بعد أن تصالح مع الشيوعيين، ثم يحكي قصة هروبه من خمس سنوات مراقبة بتنقله للعيش فوق الأسطح والعشش، ويكشف كيف كان سببا في كل الكوارث – على حد قوله – التي أصابت أفراد عائلته قبل أن يتم القبض عليه مرة أخرى ويقتاد لسجن القلعة، وسبب ضربه للعسكري الذي أراد أن يغمي عينيه، كما يحكي السعيد عن الواقعة الطريفة التي دخل فيها السجن بسبب رسالة الدكتوراه الخاصة بالسيدة جيهان السادات، وانتهت به إلى دخول سجن القلعة، ساردًا القصة المثيرة للعلقة الساخنة بالأحزمة والأحذية الميري التي تلقاها على رأسه، والإقامة غير الآدمية التي عاناها طويلا.
سامي شرف
وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وعلى مدار 18 سنة، له تجربة داخل السجن، في عهد السادات لمدة عشر سنوات كاملة من أصعب الفترات في حياة سامي شرف، الذي خرج من ديوان الرئاسة إلى ليمان طرة وخلع الزي الرسمى ليرتدي بدلة السجن الزرقاء وينام على البلاط بجوار جردل صغير في سجن إنفرادي حتى أنه طلب أن يعدم ليتخلص من هذه التجربة القاسية على نفسه، ومن المفارقات التي يكشفها شرف إنه زامل محمد فائق وزير إعلام عبد الناصر في المدرسة الثانوية، ثم زامله مرة أخرى في المعتقل في زنزانة مجاورة طوال سنوات طويلة بعد أن عاشا كمسئولين كبيرين زميلين أيضا في نفس العصر الناصري.ويحكي سامي شرف رحلته مع السياسة، ومشاركته مبكرا في المظاهرات وهو طالب في الأربعينيات من القرن العشرين، ويروي قصة لقائه بعبد الناصر لأول مرة، وكيف تم القبض عليه عام 1953 ليدخل سجن الأجانب رغم قربه من جمال عبد .
عبد الرحمن الأبنودى
قصة اعتقال أشهر شعراء العهد الناصري في معتقلات عبد الناصر، إنه عبد الرحمن الأبنودي، صاحب أكبر رصيد من الشعر والأغاني الوطنية المشتعلة بالحماس الثوري والشعارات القومية، مع الشاعر الراحل صلاح جاهين، لا ينسى الخال كيف تم القبض عليه بعد نكسة 1967 واندهاش الجميع من هذا الأمر لدرجة أن ضباط المعتقل كانوا يتساءلون فيما بينهم عن سبب اعتقال الأبنودي، وكيف أنه رغم هذا الاعتقال لم يكف عن عشقه للروح الوطنية والقومية، فخرج من السجن ليكتب روائع جديدة في الشعر الوطني، ونذكر منها "موال النهار"، "ابنك يقولك يا بطل هات لي نهار"، و"أحلف بسماها وبترابها"، ويكشف الأبنودي عن اعتراف خطير بأنه لم يسعد سجين بسجنه، مثلما سعد هو في سجنه الانفرادي في زنزانة القلعة ومزرعة طرة حيث تفتق ذهنه ووجدانه عن أعمال كبيرة، ولم ينس علاقته بالماركسية، ولا موقف والده من سجنه، وحكايته مع الزنزانة رقم "21" التي ذاق فيها الهوان، ويصف الأبنودي الزنزانة بأوصاف بشعة، وهو الذي كان له أصدقاء من المشاهير على رأسهم عبد الحليم حافظ الذي كان يمده بالسجائر، ويؤكد الأبنودي أن جمال عبد الناصر بريء مما حدث له، وتلك المسألة نرها في الحقيقة التفافًا على العدل والحق، ولا يمكن في الأمم التي تحترم حقوق الإنسان أن نبريء ساحة الحاكم مما ألم بالمواطنين من سحق الكرامة وتكبيل الأيادي!!.
فهمي هويدي
يكشف الكاتب الإسلامي قصته كأصغر معتقل سياسي، اتهموه بقلب نظام الحكم وعمره 16 سنة، وكان ذلك بحكم علاقة والده بجماعة الإخوان المسلمين، ومع ذلك قضى 12 شهرا في المعتقل دون أي ذنب، ورغم مرور عدة عقود على هذه الواقعة إلا أن تفاصيلها لا تزال محفورة في عقل فهمي هويدي، ويمضي هويدي في اعترافاته عن فترة اعتقاله إلى الحديث عن مشاهد التعذيب القاسية والكلاب البوليسية التي كانت تنهش في جسد رجل عاري في زنزانة ممتلئة بالماء، وكذلك ردة فعل هويدي وهم يعذبون والده، ومرارة ذكرياته وهو بالملابس الممزقة وهم يجلدونه ويجبرونه على الشرب من نفس الكوب الذي يتبولون فيه، كذلك يصف لنا تأثير هذه التجربة المبكرة بكل مرارتها على التحولات التي حدثت في شخصية فهمي هويدى وعلاقته بالإخوان المسلمين وبالسلطة، وخاصة اصطدامه بالرئيس السادات عندما منعه من الكتابة لأنه هاجم دعوة الشيخ حسن الباقوري وزير الأوقاف آنذاك، إلى انتخاب السادات للأبد في العام 1973.
محمد فائق
عاش محمد فائق "وزير الإرشاد القومي في العهد الناصري" 10 سنوات كاملة من عمره خلف قضبان زنزانة في حبس انفرادي، ويكشف فائق سر الرسالة التي أرسلها له السادات يطالبه فيها بالاعتذار مقابل أن يفرج عنه، وسبب رفضه للعرض الساداتي، وقال وقتها: "طول ما السادات عايش لن أخرج من السجن أبدا"، وعن محبسه يقول: "تقبلت العيش في مكان تسكنه الحشرات والفئران في سجن انفرادي لمدة عشر سنوات متنقلاً في سجن القلعة"، ولم يحتفظ داخل محبسه الوضيع بشئ واحد يصحبه من أيام الوزارة والحياة الرغدة إلا السيجار، في معتقل وصفه بـ "الموحش".

رقصة السندرلا الأخيرة



سعاد حسني:
ورقصة سالومي الأخيرة


سالومي التي رقصت عارية في آتون النار.
إيرما التي كانت تصطاد زبائنها من الشوارع والحانات.
رابعة العدوية التي أصبحت فكرة طازجة لتعذيب أجيال متباينة من الفنانات


كلهن سعاد حسني الأسطورة الغامضة التي ستظل شفرة مستعصية على الحل، لنكتشف سر أنثى مصرية كاملة خلقت من خلايا حية وميضة خالها العشاق من عجينة اختمرت اختمرت لتظل على حالها طازجة وحيية وساخنة إلى الأبد.
سعاد أول من اكتشف كذب الفكرة وسذاجتها، أدركت أنه المستحيل بعينه، أدركت أن كل الأشجار لابد أن تموت شائخة، كل الشموس مآلها الأفول، والأزهار إلى ذبوزل، كل الأشياء تمضي، لتبقى الذكرى في النهاية، خاصة ذكرى سعاد حسني التي لا تنحسر بالتقادم!!.
سعاد أدركت ذلك مبكرًا لكنها لم تتقبله، لماذا؟!، لماذا رفضت ما استقر في يقينها؟!، لماذا رفضت أن تمتد يد الأيام لتضع خطوطها على وجهها، وتضيف لجسدها الذي كان يحرك الغرائز والأفئدة أرطالاً من لحم مترهل لم يعد يحرك إلا نفسه؟!، رحلة من الوجود المشع إلى الوجود الفيزيقي.
ماتت سعاد، عادت جسدًا مهشمًا لوطن أدمن خوف النعام فاحتجب وانتقب وأطلق اللحى والشعارات وترك ساقيه عاريتين حتى الصرَّة، حاك الأنقبة من نسيج زجاجي لا يراه إلا المدعين الداعرين المتشدقين بكلام استمد قدسية مزيفة من أفكار ظلامية!!.
سالومي، إيرما، رابعة، سعاد، كلهن رقصت بالتناوب رقصتها الأخيرة على طريقتها، كلهن ارتشفن من رحيق الحياة بعد فقر، كلهن ذقن شظف العيش والتهمن خبز الحياة وارتوت أرواحهن بترياق الموسيقى وانطفأ سعير أجسادهن في فراش المدمنين للحوم الغزلان وعَرَق الرغبة وصهد الصدور المحمومة بشبق لا ينتهي!!.
لم يكن حليم رسولاً من بلاد تعشق الروح وتحتقر الجسد، لم يكن نبيًا معصومًا أو متصوفًا يهيم عشقًا، الفتلى الذي تأوه وغنى للهوى لا يمكن أن تشبعه لمست اليد، ولا تكفيه الابتسامات الصابحة ولا حتى القبل!!.
عاشق الروح نبي بلا أتباع، ولحليم ملايين الأتباع والمريدين والخلصاء والمحبين حتى الثمالة، لم تكن بنت القمر أولى الذائبات المؤمنات برسالة العندليب، لكنها آخرهن، ربما كانت أول وآخر زوجة لنبي العذارى، وربما كانت أول وآخر من كفر بدعوته في عز النهار، أول وآخر من رفض ممارسة الطقوس في الغرف المظلمة، فالفراشات تهوى الضياء وتذوب عشقًا فيه حتى لو احترقت، وسعاد فراشة جبلت على النور والنار مذ كانت صغيرة على كل شيء!!.
(نبي بلا أتباع) ديوان لصديقي الذي تعاظم في الغياب خالد الصاوي، وهو أحد أبناء جيلي المهمين الذين تفجَّر وعيهم والتفتوا إلى الحياة عندما كان حليم وسعاد لهما قوة جاذبية لا تحتاج لنيوتن كي يكتشف قدرتها الفائقة على اجتذاب الفتيان والفتيات، هي ذات القوة التي دفعتهما للالتصاق، لكنها انتزعت جسدها وفرَّت بروحها الوثابة إلى النور حين استفاقت على الظلام، وأحست أن إيمانها برسالة العندليب لا يكتمل إلا بالإشهار، كان ذلك في زمن لا تنتقب فيه الأوطان، في وقت لم يكن فيه تنظيم المحجبات قد صار جنينًا في رحم وطن لم يصب بعد بالعشوائية والفوضى والفزع والشعارات وصراعات الأحذية ولصوص البنوك والبلطجة ومن نصَّبوا أنفسهم حماة للدين والأخلاق وحزب سمعة مصر وقياداته من سوءات عصر متخم بأصحاب الحلول الراديكالية والأمور القذرة وحروب النساء والمناصب والنفوذ والمخدرات!!.
لم تشهد سعاد عودة (خالد صفوان) و(فرج) على سلم نقابة الصحفيين وشارع عبد الخالق ثروت وأمام مجالس الوزراء والشعب والشورى، سلمت نفسها قبل أن تدخل الثلاجات وترى الذبائح البشرية تسلخ وهي على قيد الحياة، سلمت نفسها قبل أن يتوعد مرشد إخوان حسن البنا للمعارضة بالحذاء، وقبل أن تجرحها دعاوى الحسبة وتصدمها دعاوى مدعيات (السينما النظيفة) في زمن البورنو كليب، فرَّت سعاد قبل عودة تشكيل (خالد صفوان - فرج) من جديد.
هل يمكن أن أتخيل عُملة أحد وجهيها (مصر) والآخر (سعاد)؟!!، هل أتجاوز إذا قلت أن سعاد = 2 × 1، دون أن تختل المعادلة؟!!.
كلهن لعب بالنار، كلهن ذهب إلى فراش الرغبة طواعية أحيانًا، وقسرًا في أكثر الأحايين، هو القاسم المشترك بينهن، لكن رابعة ومصر وحدهما قررا الاحتجاب، ثم الانتقاب عنوة!!.
رابعة ومصر التقيا (خالد صفوان) واعتصرهما (فرج)، لكن سعاد مثلت اللقاء والاعتصار، ومثلت سالومي وإيرما وزينب دياب وزوزو وملايين المصريات!!.