الثلاثاء، 23 مارس 2010

في عام الصحافة.. المجني عليه دومًا هو القاريء:





المجني عليه دومًا هو القاريء:
الذين يكتبون في الصحافة والذين يستكتبونهم


الصحافة المصرية مأزومة، حقيقة لا يجادلنا فيها إلا المترف الذي لا يعلم أن الأموال تصنع صحافة وتفرضها بتكاليف باهظة لا يقدر عليها من يرغبون في تقديم صحافة حقيقية تبحث وتجتهد من أجل تقديم الحقيقة لقاريء محترم لا يقبل الغواية المكتوبة بتوجيه من أصحاب النفوذ والسلطة والمال.
إذن الظروف المادية ذهبت بالصحافة في اتجاه يماثل اللواط في قذارته، أو بالأرجح بالأحرى شكَّلت تلك الظروف من القائمين على تلك الصحافة إلى رهط من القوادين الذين يعرضون حرمة الكتابة لمن ينتهكها بأجر، وتحويل الصحافة، تلك المهنة العظيمة ذات التاريخ الناصع والتي قامت على عاتق أساتذة عظام إلى عاهرة تتعرى أكثر كلما كان المستأجر سخيًا، وحسب مقدار نفوذ وسلطة هذا المستأجر، صحافة تدافع بأجر وتدين بأجر، وتتجاهل شخصيات وحقائق لحساب آخرين، وتلفق وتتحمس لصالح من يفتح جيوبه وخزائنه.
ورغم كل هذا الغثاء إلا أن مصر المحروسة لديها من الصحفيين والكتاب الشرفاء من يستطيعون تصدير الحقائق على مدار الساعة، يكتبون بتوجيه من ضمائرهم، ولم تستطع الظروف الصعبة التي تطرقنا إليها سلفًا أن ترغمهم على التدني بالمهنة التي لها من القدسية ما يجعلهم يستشعرون حرمة الابتذال وجرائم التشهير وسياسة التجريس، أو حتى المديح في شخص لا يستحق، وقد عاينت ذلك بنفسي حين كان الكثير من المواطنين يعربون عن سخطهم البالغ أمام ما تبثه صحيفة ما – على سبيل المثال - تكيل المديح لمسئول كره الناس أفعاله وأقواله، وكأن الصحافة تزيد من جراح الناس الذين لا يملكون سلطة ولا يحملون أقلامًا، وسيبقى دومًا الكاتب والصحفي المصري رمزًا للصحافة الجادة المستنيرة، رغم هؤلاء الذين يخلطون بين الصحافة والقوادة.
وعلى صعيد آخر، اشتد الهجوم من قبل أعداء الصحافة الذين يتهمون الصحافة صباح مساء بأنها سبب سوء سمعتهم، وتكدير صفوهم، وأفرط هؤلاء في استخدام مصطلح (الصحافة الصفراء) الذي تعلموه للأسف من صحفيين اعتادوا أن ينعتوا الصحافة التي تختلف معهم بتلك الصفة الوافدة التي لا محل لها في الأعراب، وما تعاينه الصحافة المصرية تراه الصحافة في كل دول العالم، ولا يغيب عن أحد أن الهجوم دومًا يطال الصحافة المستقلة والخاصة، ويتناسى هؤلاء أن الصحافة في الأسس ولدت مستقلة خاصة، ولا ينبغي من الأساس أن تمتلك الدولة صحفًا تنفق عليها من أموال الناس، وكثيرًا ما تكون الصحافة بريئة يتهمها الجناة، وينعتونها بالاصفرار، فهل الصحافة هي الفنانة المخمورة التي ارتكبت حادثة سير؟!، وهل الصحافة هي البرلماني الذي الذي ورد للمستشفيات قرب الدم الفاسدة؟!، وهل هي التي قطعت لحوالي 1300 مصري تذاكر الموت حرقًا وغرقًا على عبارة تعاقدت مع إبليس؟!، هل الصحافة هي التي أشعلت النار في مسرح بني سويف وأسقطت صخرة الدويقة على رؤوس الناس وخططت لتصادم القطارات وجعلت ضحايا حوادث السير تفوق عدد ضحايا الحروب؟!، هل الصحافة هي التي سمحت للصوص بالهروب من قاعة كبار الزوار بعد أن اغترفوا أموال الناس بتسهيلات؟!، أم أن الصحافة هي التي سهلت لهؤلاء السطو على المال العام؟!.
الصحافة التي تشارك في عمليات الغسيل السياسي وتدشن صفحات في النفاق الذي لم يطلب منها، وبأموال شعب تتضور قاعدته جوعًا وتعاني من أمراض عضال تسببت فيها سياسات خائبة للأسف لا يصفها أحد بالاصفرار ولا الاحمرار، رغم إنها أجيرة عند الشعب، تأكل من ماله وتتركه يجوع، تنعم بخيره وتتركه لعراء العوار السياسي محمومًا يصارع كل الفيروسات الاجتماعية والثقافية والسياسية صحافة تستحق الرجم، تستحق أن تترك أموال الشعب للشعب ليصنع بها ما ينفعه.
فمن المستغرب على سبيل المثال في قضية هشام طلعت مصطفى التي مازالت رهن العمل القضائي أن يتجه البعض من صناع الميديا إلى سؤال العاملين بشركات هشام عن آرائهم، فماذا ينتظر منهم أن يقولون غير "هشام أجدع واحد في الدنيا، وإنه مفترى عليه، وإنه فاتح بيوتنا، ............، إلى أخره من الكلام الذي يصب في خانة الولاء والانتماء لرب العمل في زمن تفاقمت فيه البطالة، ولو كان الذين يطرحون السؤال يعلمون الإجابة مسبقًا فما هو العمل الصحفي والإعلامي الذي يقومون به؟!.. وكيف يمكن توصيفه؟!، وهل لنا أن نسيء الظن بمثل هذا النوع من الإعلام الموجه الذي يتوجه بسؤاله لأصحاب مصلحة مباشرة، أم سيتهموننا بالجهل والتربص؟!.
الوسائط الإعلامية التي دشنت القصص والحكايات عن هبة ونادين في القضية الأشهر وكالت لهما الاتهمامات ونعتتهما بما يندى له الجبين، وشوهوا سمعة الضحيتين بدون رحمة أو شفقة، ودون اكتراث حتى بأخلاق المهنة، والسؤال هنا عن الجدوى، وعن صاحب المصلحة في ذلك؟!.
تلك الصحافة وذلك الإعلام الذي دافعت كثيرًا عن تامر حسني، وعن مستقبله المهدد كفنان قومي، رغم أحكام الإدانة في قضية تزوير ما كان ينبغي على بشر تجري في عروقهم دماء ساخنة أن يدافعون وبعنف عن الخطأ، ولو كان شابًا آخر، من عموم الناس، لا يملك الشهرة ولا المال، فعل واحدًا على عشرة مما فعله (تمُّوره)، لكان هؤلاء، من أصحاب الأقلام والكاميرات، صدَّروا صوره وجرسوه ليل نهار.
أما في القضية التي عرفت إعلاميًا بقضية سميراميس، فالواقع أكثر سوءًا، ولم تقف عندي القضية عند صحيفة موتورة تجرأت وافترت على نجوم مصريين بينهم قامة سامقة تتمثل في المبدع نور الشريف، ومازالت مقتنعًا بأن هناك أصحاب مصلحة في تشويه السمعة، ولا يمكن أن أكتفي أيضًا بأنها محاولة من صحيفة مغمورة تبحث عن رواج على حساب سمعة الناس، لا شط أن هذا جزء أصيل من عوائد تلفيق خبر عن فنانين (شواذ)، وبداخلي شبه يقين بأن هناك أصحاب مصلحة من خارج الصحيفة دبروا المؤامرة بليل، لكن ذلك لا يعني تورط الصحيفة والقائم عليها، وهي إساءة بالغة للجماعة الصحفية، وأزعم أن هذه القضية الأخيرة الخاصة بالافتراء على الفنانين ليست سوى عَرَض لمشكلة أكبر في الصحافة المصرية طالت مجمل تقاليد المهنة وأخلاقياتها، ذلك أن من يتابع التراشق الحاصل بين الصحف والأساليب المتدنية التي تستخدم في المنافسة فيما بينها، إلى جانب عمليات التوظيف الأمني للأخبار، الذي يختلق بعضها ويشوه البعض الآخر لتحقيق مآرب وتصفية حسابات معينة.
من يقف على هذه التفاصيل يقتنع في نهاية المطاف بأننا بصدد مهنة تصدعت وأصبحت بحاجة إلى إعادة بناء من جديد، وإن ما بدا شذوذًا في صحافة الغير بات قاعدة في صحافتنا، علمًا بأننا لا نستطيع أن نقارن الصحافة بين بلدين إلا إذا قارنا أوضاع السياسة والحريات العامة بينهما، هنا فقط نتعرف على أسباب الجرائم المرتكبة في الوسائط الإعلامية المصرية التي لا تخلو من إعلام مشرف وخلاَّق، ومازال لدينا من يعمل وفق شرف المهنة وأعرافها.
على صعيد آخر، تتملكني الحيرة حين أعاين صحيفة فأجدها خالية من الإعلانات – المصدر الرئيس لموارد أي صحيفة – رغم ذلك تعمل بشكل دوري ولها هيئة عليا وهيئة معاونة وكتيبة من الإداريين والمحررين والمراسلين، ومصدر حيرتي سؤال مغرض يعتمل داخلي ومفاده: ما هي الموارد التي تعتمد عليها تلك الصحيفة وأخوتها؟، من أين لها بآلاف الجنيهات التي تخرج على شكل أجور وتكاليف تجهيزات وطباعة وخلافه؟!، أظن أن الإجابة على تلك الأسئلة تحمل في طياتها أسبابًا وجيهة لظهور صحافة بهذا السوء!!.
والصحفي الحقيقي هو الذي وجدت لديه الموهبة مصقولة بالتعليم والثقافة واجتاز مراحل العمل الصحفي ليصل لدرجة الصحفي الحقيقي، ولا علاقة بكونه نقابي أو لا فيما يخص الموهبة، فكم من المواهب خارج نطاق النقابة، وكم من عدماء الموهبة الذين لا يسطرون جملة صحيحة ويتسلحون بعضوية النقابة، وكأن تلك العضوية هي علامة الجودة، على الرغم من ؟أن د. طه حسين لم يكن نقابيًا، وكذلك توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأنور السادات وغيرهم!!.
والسؤال الآن: كيف نحمي الصحافة من أبنائها؟، لنجيب عن هذا السؤال نشير إلى مشكلتها، فتكمن مشكلة الصحافة اليوم في: انعدام المهنية والبعد عن التخصص والمسئولية، مما يدفع البعض لاختراع الإثارة بأي شكل من الأشكال حتى لو كان ذلك على حساب أشخاص آخرين أو على حساب اقتصاد البلد أو حتى أمنه، وعدم وجود معايير أساسية للفصل بين مفهوم الانتقاد الوظيفي والمهني و التجني الشخصي، وأدوات للتعريف بمفهوم الإثارة والمبالغة، وتحديد الفوارق بين الإثارة الإيجابية التي هي من السمات الأساسية للعمل الصحفي والإثارة السلبية التي تتنافى مع القيم والأخلاق المهنية في العمل الصحفي.
لقد سمح الصحفيين لغيرهم بالتدخل في صميم عمل مهنتهم بعد أن تخلوا عن كثير من مبادئ الصحافة وحولوها لتجارة رابحة في المقام الأول والأخير، لدرجة أن عدد غير قليل من الصحفيين وصفه بالصحفيين الملاكي، فهم يمدحون حين يقبضون، ويذمون حين ُيتجاهلون، يدلون برأيهم في كل موضوع وكأنهم الموسوعة، دون احترام للتخصص أو لدراسة ما سيتم أبداء الرأي فيه أو حتى الاعتذار للجهل بطبيعة الموضوع، فهناك خلل حقيقي في الصحافة، و الكثير لم يعد يشعر أن ما يكتب في الصحف أو ما ينتجه الصحفيين من أعمال تمت للصحافة بصلة، يشعرون معها – حقيقة - بالتربص، و العدوانية التي تصل لدرجة محاولة خطف وتضليل الرأي العام.
إن مهنة الصحافة، قد بدأت عوامل التصدع تضربها في مقتل و تسبب ذلك في فقدان الثقة في الصحافة، وبدأت نزعة الكره تطغى على البعض، و أصبح لكل صحفي مجموعة من المؤيدين ومجموعة من المعادين، كل حسب ميوله وانتمائاته.
حتى انعدمت الثقة تمامًا بين القارئ والصحفي من جهة، وبين الصحفي والصحفي من جهة أخرى.
علاوة على بروز دور الإعلام الإلكتروني الذي سمح للجميع بالحديث والتناول والتعاطي و ساعد على تهميش الصحافة المطبوعة، إضافة لكثرة المحطات وبرامجها الإعلامية والتي تعتمد على المواهب الصحفية من مختلف التيارات.
كذلك وجود فساد إداري واستغلال رؤساء مجالس الإدارات لها، و الهيمنة الحزبية على بعض الصحف، وإضافة لوجود صحافة بنكهة الأخوان المسلمين، وصحافة رائحتها بنفاذ روائح مشتقات البترول، وهكذا.
كل ذلك رسخ لدى القارئ أن الصحافة تخلت عن دورها الحيادي في إلقاء الضوء على الخبر والحادث فعلاً، وبدلت أسلوب عملها لصناعة الخبر وفبركته والاعتماد على نوعية من الأدلة التي لا يعتد بها - كشهود العيان مثلاً – الذين يدلون بشهادة تتفق ووجهة نظرهم، ونجد على الساحة الآن صحفًا تتخذ الإثارة والتهويل مبدءًا، وتشجع على الاحتقان والإثارة وتقود في النهاية إلى المواجهة، وأخرى تتولى مهمة نشر وجهة نظر أحادية دون منطق أو تحليل، وصحف حملت لواء النزول للأدنى، استجابة لرغبات وشهوات البعض، وأصبح مبدأ الارتقاء المهني لديها حبيس الأدراج، وفق معادلة كمية التوزيع تساوى فرص البقاء، وحتى تلك التي نجت من محاولات التلوين أصابها مرض الحياد السلبي بعد تضاءل دورها، وأصبحت بمعزل عن التأثير الاستقلالية.
إن للصحافة دور هام في نقل و توصيل المعلومة و تسليط الضوء على الحدث ليشعر معه المواطن والقارئ بالأمن والثقة، بدلا من الشعور بالعزلة واليأس، وتبرز ضرورة وجود صحافة مهنية محترمة ومسئولة تتمتع بحرية مقننة بقانون الدولة وأخلاق وأعراف المجتمع حتى لا يصل الحد بتلك الحرية للاعتداء على الآخرين والتجريح، لكن الانتقاد و التقييم الموضوعي لأداء المسئولين وتوضيح المآخذ عليهم للرأي العام وإبراز احتياجات، وآمال، وتطلعات، وآمال المجتمع، ونحن في مصر إذا كنا نهدف لبناء مجتمعًا قويًا مستنيرًا، علينا أن نحترم الرأي الآخر وألاّ نعمل على وأده، ويؤكد على تلك الضرورة تلك المسئولية الملقاة على عاتق الصحافة بحماية المجتمع من الانتهازيين والفوضويين من خلال الموضوعية، وتوخي الدقة، والانحياز لمصالح الوطن والمواطنين.