الخميس، 15 أبريل 2010

تاريخ العوامات على نيل المحروسة

كان لدينا 500 عوامة على نيل المحروسة فقدنا منها 477
العوامات تشهد على حكايات لا تنتهي ولعبت دور البطل الرئيس في أغلبها

كان أديب نوبل من عشاق الحياة في العومات وعاش بعوامة 25 سنة وهجرها بعد حادثة غرق طفلة
تم اغتيال العوامات بقرار من رئيس الوزراء زكريا محي الدين لأنها كانت تؤرقه في ممارسة التجديف


أشهرها عوامة حكمت فهمي:
تاريخ العوامات على نيل المحروسة


العومات في تاريخ المحروسة شهدت بل شاركت في حكايات وأحداث لا نهاية لهما، ويصعب حصر تلك الوقائع والحروب الاجتماعية والسياسية والعاطفية واللوجستية التي دارت رحاها في عوامات، وعالم العوامات متخم بالكواليس والعلاقات الساخنة والمريبة، والعلاقات الطبيعية أيضا، حي لا تهدأ ولا يخلد مرتاديها للنوع أثناء تواجدهم فيها في أغلب الأحايين، ويظل النهر العظيم هو الحكيم الذي يتابع عن كثب ما يدور في العوامات وحولها، حيث تمتزج هناك المتناقضات بين الحب والكراهية، العمالة والمقاومة، الدعارة والعلاقات الشفيفة، المؤامرات والدفوعات، عالم يخلط بين التاريخ فيه التاريخ بالعلاقات الخاصة والعلاقات الاجتماعية، وتظل السياسة في كل الحالات وجبة شهية لأناس من المشاهير وأهل الحظوة، ولا يمكن أن نفض بكارة حكايات العوامات دون أن ذكر عوامة إخلاص حلمي، أو العوامة رقم 77، المأوى لأعداد من القطط التي تخص إخلاص في الوقت الراهن.
والعارفون بالعوامات يؤكدون أن العوامة رقم 20، والتي تقع في نهاية كوبري إمبابة الشهير الذي طالما ظهر في الأفلام المصرية، كانت ملكيتها تأول للعمدة الفنان صلاح السعدني، لكنه على الأرجح باعها منذ فترة ليست بعيدة.
والعوامات أسرار وخفايا وحكايات صغيرة مدهشة تستحق السرد، ومدعاة للتعاطي الدرامي والأدبي، حين يصبح المكان أحد الأبطال الرئيسيين في العمل الإبداعي.
ومن أشهر العومات بالطبع عوامة الراقصة اللبنانية بديعة مصابني التي تزوجت من فيلسوف الكوميديا الراحل عراقي الأصل مصري الهوى نجيب الريحاني، وكانت العوامة تصدر شرفاتها لفندق شيراتون القاهرة خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وكان العوامة لطبيعة عمل صاحبتها ونشاطها مرتعا للنجوم من الفنانين مثل المطرب ذائع الصيت محمد عبد المطلب، وتحية كاريوكا الراقصة والممثلة والناشطة السياسية الكبيرة، وسمراء السينما المصرية الراقصة سامية جمال، وصاحبة أكبر قدر من الجدل الأميرة آمال الأطرش المعروفة باسم أسمهان، وشقيقها الفنان الراحل فريد الأطرش، ولم يقتصر ارتياد عوامة مصابني على أهل الفن، فكانت مزارا دائما للساسة الكبار سيما من يعشقون التقرب للفن وأهله، ويقال أن عوامة مصابني شهدت تكوين حكومات، لذا كان الصحفيون يقتاتون الأخبار من عوامة مصابني، فهناك كان المحفز على الكلام بلا حرج في أقوى حالاته، فما أجمل الكلام بلا تحفظ، حين يكون الكبير في حالة ارتخاء وانتشاء وفضفضة.
أما الراقصة التي منحت لقب (ملكة العوامات) عن جدارة هي حكمت فهمي، التي كانت ترقص وتغني كل ليلة لجنود الاحتلال البريطاني في نادي الـ (كيت كات)، وما أحوجها بعد ليلة من الرقص والغناء بضمير للخلود بعوامتها التي تقبع على نيل الزمالك أرقى أحياء القاهرة العاشقة لليل والسهر والأضواء، ومن المعروف إن حكمت كانت جاسوسة تعمل في معية الجاسوس الألماني (يوهان إبلر)، حيث تساعدها ظروفها كراقصة تراقص جنود بريطانيا في الحصول على المعلومات من الجنرالات الإنجليز لتصب في النهاية عند الجنرال الألماني الأشهر (روميل) الذي كان يقاتل الإنجليز عند العلمين، فكانت حكمت فهمي تراقص كبار الضباط في الـ (كيت كات)، ثم تسحبهم مخمورين للعوامة، وتستدرجهم في الكلام لتتقصى المعلومات التي يثمنها الألمان غاليا، والطريف أن روميل وضباطه كانوا بالسذاجة غير المبررة، حيث صدقوا ولاء حكمت لهم، حتى لقبوها بجاسوسة روميل، وتحدثوا عن إخلاصها للجيش البريطاني الثامن في حربه ضد الألمان، هذه الثقة التي ساعدت حكمت في عملها حتى سقط الجاسوسان الألمانيان (يوهان إبلر)، و(هنريتش غيرد ساندستيت)، اللذان اطمأنا لحكمت وعوامتها التي اتخذوها محطة للاتصال بقيادة المخابرات الألمانية، وفي عوامة حكمت استعان الجاسوسان بالسادات عن طريق حكمت في صيانة وإصلاح وتطوير أجهزة الإرسال الموجودة بالعوامة، ولأن الجاسوسان اعتادا البحث عن فتيات الليل، انكشف أمرهما على يد عاهرة فرنسية هي (إيفيت عن إبلر)، فالجاسوس الأول وكان معروفا في مصر باسم (حسين جعفر) اصطادها وقضى ليلة معاها في مقابل 20 جنيها إسترلينيا، وكما كان كريما معها في المال كان كريما في الثرثرة، فلم تتردد العاهرة الفرنسية في إبلاغ الاستخبارات، وتم اعتقال الجاسوسين، ومعهما صاحبة العوامة حكمت فهمي، والسادات وزميله حسن عزت اللذين طردا من الجيش في 8 أكتوبر من العام 1942، وجرى ترحيلهما إلى سجن الأجانب ثم إلى معتقل قرب مدينة المنيا.
وكانت العوامات دوما مطمعا لمخرجي السينما، باعتبارها من أماكن التصوير العبقرية، والتي تعطي مساحة إضافية للدراما، حيث ثراء المكان وخصوصيته.
أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ الذي كان من مريدي وعشاق العوامات، حيث أقام لفترة 25 عاما بعوامة حسين باشا دياب، أنجب خلالها كريمته الكبرى، وكتب أهم أعماله منها الرواية التي تدور أحداثها في عوامة (ثرثرة فوق النيل)، وحين استيقظ محفوظ على حادث غرق طفلة من عوامة هجر حياة العوامات نهائيا، وللعوامات حضور في بعض روايات محفوظ خاصة في الثلاثية.
ومن الطريف أن شاعرنا حافظ إبراهيم أطلقوا عليه "شاعر النيل" لأنه ولد بعوامة عوامة في العام 1872.
في النصف الثاني من القرن العشرين تعرضت العوامات إلى تعدٍ واضح، حين أصدر وزير الداخلية المصري (وقتها) زكريا محيي الدين قرارا بنقل جميع العوامات من الزمالك والعجوزة إلى منطقة إمبابة في العام 1966، وسبب القرار يعود لمصلحة زكريا، فقد كان البكباشي زكريا محيي الدين يمارس من عشاق رياضة التجديف في النيل، ويمارسها بشكل دوري نهاية كل أسبوع، وشعر زكريا أن العوامات تشغل مسطحا كبيرا من مياه النيل، لذا لم يتردد في إصدار القرار الذي أغضب المشاهير من عشاق العوامات والذين ارتبطوا بعوامات بعينها، وبالفعل تم نقل 65 عوامة من العجوزة إلى إمبابة، كما تم إعدام 37 عوامة أخرى تحمل ذكريات وحكايات لا تنتهي، وتفتقد المحروسة أد عوالمها، عالم العوامات، فبعد أن كان النيل يحتضن 500 عوامة، طالت يد البطش 477 عوامة، ولم يبق للذكرى سوى 23، منها 9 عوامات مرخصة فقط.
الفرمان الوزاري لم ينل استحسان الأثرياء والباشوات الذين رفضوا الانتقال إلى المنطقة التي اعتبروها شعبية، فاضطروا إلى بيع عواماتهم بمبالغ ضئيلة أو تركها لمصيرها القاتم، مثل عوامة المطرب فريد الأطرش التي كانت تتألف من طابقين على الطراز العربي، واعتبرت المكان المفضل له لمقابلة أصدقائه من الفنانين والفنانات، وعلى ظهرها لحن أجمل أغنياته خاصة أغنية "حبيب العمر". وقد توقع البعض أن تتحول هذه العوامة إلى متحف لكن ورثته لم يهتموا بصيانتها والحفاظ عليها بعد وفاته، حتى أنهم امتنعوا عن تسديد الرسوم المطلوبة عليها لأجهزة الدولة، فتحولت إلى كهف مهجور، مما اضطر شرطة المسطحات المائية إلى سحبها من الماء نهائيا وتفكيكها وبيعها خردة في العام 1982.
وامتلك الفنان محمد الكحلاوي في أربعينيات القرن الماضي عوامة اعتاد أن يسهر فيها مع جمع من الفنانين والصحفيين والأصدقاء، وفي بعض الأحيان كان ضيوفها من المغنين والراقصات، وكان ذلك قبل أن يصبح الكحلاوي "مداح النبي"، وفي عوامة الكحلاوي وسهراتها خرج مشروعا فيلميه "كابتن مصر" و"أحكام العرب".
وكانت العوامة رقم 75 ملكا للفنان نجيب الريحاني، لكنها غرقت بعد أن رفض الورثة إصلاحها، أما العوامة رقم 66 فكانت تملكها الفنانة منيرة المهدية، وقد اشتهرت هذه العوامة بأنها كانت مقصد كبار المسئولين ورؤساء الحكومات في عهود مضت، وقد قالت في تصريحات لها قبل وفاتها: "لو فكر صحفي أن يسترق السمع إلى صالوني في تلك الفترة لاستطاع معرفة أخبار البلد، ولكن أحدا لم يفكر يومها أن مجلس الوزراء ينعقد في عوامتي"، وتقول منيرة المهدية في مذكراتها إن رئيس الوزراء آنذاك حسين رشدي باشا - الذي شكل أربع وزارات متعاقبة بدءا من 5 أبريل في العام 1914 وانتهاء بتاريخ 19 مايو في العام 1919- كان يجتمع مع وزرائه في العوامة ويتخذون القرارات الخاصة بشئون البلاد، "وكان يقول لي رشدي باشا أنا لما باجي هنا بالي بيروق"، وقال لمنيرة المهدية "إنك تستطيعين الحصول على الاستقلال لمصر" بأغنية من أغنياتها، ويقال إنه على أنغام أغنية "يا حبيبي تعالى بالعجل" كان الوزراء والساسة يناقشون تطورات الوضع في مصر المحروسة، وبلغ عشق منيرة المهدية لعوامتها أنها في العام 1963 باعت فيلتها بمنطقة مصر الجديدة بمبلغ 6 آلاف جنيه، وسيارتها، وجاءت لتعيش في العوامة، لكنها تركت الماء وعادت إلى البر مرة أخرى بعد أن غرقت عوامة جيرانها.وقضى الملك فاروق سهرات صاخبة مع عشرات الحسناوات على ظهر إحدى العوامات، بل إن إسماعيل صدقي رئيس الوزراء الداهية الذي أبطل دستور العام 1923 وعرف بالسفاح، كانت له حكاية وهو في سن الأربعين مع العوامات، ففي العام 1915 قدم صدقي - وكان وقتها وزيرا للأوقاف - استقالته نتيجة فضيحة أخلاقية، حيث وصلت إلى الشرطة بلاغات تفيد بأن العوامات على النيل، وخاصة عوامة وزير الأوقاف يحدث بها ما يشين، فاقتحم رجال الشرطة العوامة ليجدوه في وضع مريب مع فتاة شابة كانت ابنة أحد زملائه الوزراء والتي انتحرت بالسم بعد إطلاق سراحها من القسم، ووصل الموضوع إلى السلطان حسين الذي استدعى صدقي وعنفه ليستقيل الأخير نتيجة هذه الفضيحة، وهنا يرن في آذاننا تعريف نجيب محفوظ للعوامات بأنها "الحبال والفناطيس والزرع والطعام والمرأة".
ولم تغب العوامة، والحال على ما نقول عن ذهن شاعر العامية المصرية أحمد فؤاد نجم إذ يقول في قصيدته "جيفارا مات" التي لحنها وغناها الشيخ إمام عيسى: "يا بتوع نضال آخر زمن فـ العوامات، ما رأيكم دام عزكم، جيفارا مات".
الأضواء المتلألئة من العوامات الرابضة على صفحة مياه النيل تتحدى الظلام المحيط بها، وتحكي عن قصص لا تنتهي ومغامرات تفوق حدود الخيال لأبطال هذا العالم الخاص، والملف الذي فتحته قصة سقوط ما أطلقت عليه أجهزة الأمن المصرية اسم التنظيم المتهم بازدراء الأديان، بعد مداهمة حفل لعدد من الشباب على ظهر العوامة "ناريمان كوين" - التي تملكها عارضة أزياء معتزلة – أكثر إثارة وغموضا مما اعتقده كثيرون، ففي هذه العوامة التي تستقر أمام فندق "ماريوت" في حي الزمالك ظهر في مايو العام 2000 شاب ألماني تصنفه مباحث الآداب على أنه واحد من تنظيم "عبدة الشيطان"، ثم جاء مايو العام 2001 ليشهد إعلان أجهزة الأمن أنها ضبطت تنظيما لمتهمين بالمثلية دأب أفراده على اللقاء في هذه العوامة كل يوم خميس، غير أنه جرى لاحقا تبرئة ساحة كثير من هؤلاء المتهمين.
عوامات النيل تتبع ثماني جهات مختلفة: إدارة الملاحة، الوحدة المحلية بالجيزة، إدارة حماية النيل، شرطة المسطحات المائية، وزارة الري، أملاك الدولة، الصرف الصحي، وزارة السياحة، وهكذا تفرق دمها بين القبائل.
يتعين أن نشير إلى أن هناك نوعين من العوامات: نوع ثابت لا يتحرك من مكانه، وهو عادة يكون من الخشب مكون من طابقين ومهيأ للسكن تماما، النوع الثاني من العوامات يحتوي على محرك ينتقل بها من مكان إلى مكان، وكان أصحاب مثل هذا النوع من العوامات يتجهون بها إلى الشواطئ خلال فصل الصيف خاصة مصيف رأس البر، وكان هذا النوع يعرف باسم "الدهبية"، العوامات التي كانت مسرح غناء شريفة فاضل وألحان فريد الأطرش ونكات نجيب الريحاني، طالتها الآن يد العشوائيات أو امتلكها خليجيون ومحاطة بالسرية والكتمان، في حين لجأ البعض إلى تأجيرها على طريقة البنسيون أو منحها لطالبي السهرات الخاصة بعيدا عن العيون الفضولية والمتطفلة، لتبدأ في تلك الليالي حكايات أخرى عن السرقة والشذوذ والقتل، هنا فقط يتذكر الجميع - من رجال الشرطة إلى عامة الناس - أن العوامات مازالت تطفو على سطح نهر النيل وترسو بكل ما تحمله من أسرار وحكايات مذهلة تتحدى الزمن، والشائعات أيضا.

هناك 3 تعليقات:

  1. عوامه ٤٧ انا محافظ عليها من ١٩٥٨ كما هى
    oriental nile family
    ودى قصتها تاريخ وفعلا العوامات فيها سحر بيخطف روحك

    ردحذف
    الردود
    1. بيطلعوك منها وإلا إيه بيئولوا انهم حيزيلوا كل العوامات المتبقية

      حذف
  2. السرد لتاريخ هذه العوامات اكثر من رائع
    ولكن اين هذا التراث وتاريخ هذه العوامات من واقع مايحدث بهذه العوامات الان
    اولا : القليل جدا ماهو مستخدم كسكن خاص
    ثانيا : الكثير مؤجر مفروشً لكافة الاستخدامات والتي يغلب عليها الموااخيير
    ثالثا : منها ماهو ملاهي ليليه التي تتسبب في ازمة واختناق مروري كبير لميدان الكيت كات والتي تقع امام وزارة الثقافة يكفي رصد اشكال البشر دخولا وخروجا بمختلف جنساتهم

    ردحذف