الأحد، 19 يونيو 2011

الجهاز الوطني.. والضحك على الذقون


لعبة الضحك على "الذقون":
من "مكتب الخدمة السرية" سنة 1910.. إلى "جهاز الأمن الوطني" سنة 2011


الكلام المبني للمجهول يصنع كثيرًا من المطبات اللغوية التي تصنع بدورها حالة من التوهان، وأحيانًا سوء الفهم، نفس التأثير ينتج عن الأفعال التي لا نعرف لها صاحبًا أو محرضًا أو محركًا، الأمر يشبه الحالة التى يعيشها الشارع المصري الآن بعد أحداث إمبابة والاشتباكات الطائفية التي انتهت بحرق كنيسة وقتلى ومصابين.
التوهان هنا سيد الموقف، لأن المتهم مازال غير واضح، بعض الأصابع ومقاطع الفيديو تتهم التيار السلفي، بينما أصابع أخرى أطول منها وجلسات خاصة وعامة تتهم مخابرات أجنبية وبقايا جهاز أمن الدولة بالتخطيط والتحريض لإشعال تلك الفتن المتعاقبة بداية من أطفيح وحرق كنيسة قرية صول، ثم أحداث المقطم، وحتى اشتباكات إمبابة التى جاءت أكثر دموية.
اتهام جهاز أمن الدولة هنا لا علاقة له بنظرية المؤامرة وألاعيبها وخيالها الذي يشطح بالبعض أحيانًا، بل له علاقة قوية جدًا بتلك الأمور التى كانت معلومة بالضرورة في كل شارع وكل حارة، بأن هناك خيطًا ما من التعاون يربط بين التيار السلفى، وجهاز أمن الدولة، تتضح معالمه فى تلك الفضائيات التي كانت تظهر بلا حساب في بلد كان الظهور الفضائي فيه لا يحدث إلا بإذن أمن الدولة، وفى حرية عقد اللقاءات والخطب والندوات في مساجد وجمعيات كلنا نعلم أن تراخيصها تخرج من جهاز واحد فقط، هو أمن الدولة.
اتهام أمن الدولة يرتبط أيضًا بتلك الخدعة الكبرى والمقلب الجامد والوهم الكاذب الذى خلقته وزارة الداخلية، ومررته حكومة الدكتور شرف لكي نشربه كلنا ونحن راضون بما تقدمه لنا حكومة الثورة التى هتفنا لرئيسها في ميدان التحرير، المقصود بالخدعة هنا هى لعبة وزارة الداخلية المعروفة باسم حل وتفكيك جهاز أمن الدولة المتهم الأول بإفساد هذا الوطن، واستبداله بجهاز أمني آخر يحمل لقب "جهاز الأمن الوطني".
المقلب هنا يشبه تمامًا تلك الحدوتة الشهيرة التي تتحدث عن هؤلاء السذج الذين جاءوا إليهم بشوال ملح وكتبوا عليه سكر، فهتفوا مهللين من شدة الفرحة قبل أن يتذوقوا الملح ويكتشفوا الخدعة، الحق يقال إن عملية المراوغة الكبرى التى قامت بها وزارة الداخلية فيما يخص أمر حل جهاز أمن الدولة، وإعادة تصديره للناس فى ثوب وشكل جديدين، كانت عبقرية منذ الخطوة الأولى التي بدأت في ليلة اقتحام مقرات أمن الدولة في المحافظات، وهو الأمر الذي تم في سهولة وسلاسة لا تتناسب أبدًا مع تحصينات تلك المقرات، وتحديدًا مقر الجهاز في مدينة نصر، والذي لا يمكن بأي شكل من الأشكال اقتحام أبوابه الأمنية التي يتكلف الواحد منها مليون جنيه، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى حقيقة أسداها أحد قيادات الجيش حين تردد – كذبًا – أن الجيش سمح للناس بدخول المقر الرئيسي لأمن الدولة، وبمنتهى الصدق قال القائد العسكري أن أبواب المقر فتحت من الداخل لكن شهادة الرجل ذهبت أدراج الرياح، فلم يكن ممكنًا أن يدخل الجمهور المقر دون رغبة القائمين على الجهاز في حدوث ذلك، الدلائل على وجود تسهيلات لاقتحام هذه المقرات كثيرة، ويمكنك الرجوع إليه في أي وقت، ولكن الأهم هنا أن ما حدث خلق نوعًا من الإيهام بأن الجهاز سقط وتم تدميره، حينما دمرت وحرقت مقاره الرئيسية والفرعية، ثم استكملت وزارة الداخلية المراوغة بإعلان شفوي عن إعادة تقييم ضباط الجهاز من أجل استبعاد السيئ منهم من تشكيل الجهاز الجديد، ثم اكتملت الخطة بالإعلان عن اسم جديد للجهاز هو "الأمن الوطني" مع تعهد شفوي دون أية ضمانات بعدم تدخل الجهاز الجديد فى الحياة السياسية، حتى لا يكون أحمد هو الحاج أحمد.
عبقرية عملية النصب هذه لا يمكن أن ننسب فضلها بالكامل لوزارة الداخلية الحالية، ويقول التاريخ أن الخطة التي نفذتها الداخلية لحل جهاز أمن الدولة بعد الثورة هي نفسها الخطة التي يتم تنفيذها مع الجهاز كلما اشتعلت في مصر ثورة، وكلما علت موجة الغضب الشعبي على الجهاز ورجاله، حدث هذا بعد ثورة 19، ثم تكرر نفس السيناريو بعد ثورة يوليو، ثم تكرر المشهد بكل تفاصيله بعد ثورة التصحيح في العام 1971، مجرد تلاعب في الوجه وملامح الجهاز وإداراته، وتغيير في الأسماء مع فترة سكون وصمت وهدوء دون تقديم أية أطروحات قانونية أو خطوات ملموسة لضمان عدم عودة الجهاز إلى ما هو عليه مرة أخرى.
تغيير اسم الجهاز هو أكثر لعبة تم استخدامها للتهرب من جرائمه وصورته الذهنية السيئة فى عقول المصريين، الجهاز الذي بدأ في 1910 باسم "مكتب الخدمة السرية"، ولد من يومه لوظيفة محددة وواضحة هي تعقب الحركة الوطنية والقضاء عليها، كما أعلن مؤسسه السير "ألدون جوست"، وطبقًا لما أورده الخبير الأمني اللواء حسن الوشاحي في دراسة له قيد الإعداد عن جهاز أمن الدولة، فإن لعبة تغيير اسم الجهاز بدأت بعد ثورة 19 حينما تورط رئيس الجهاز وقتها فى فتح كوبري عباس على طلبة الجامعة المتظاهرين، وحمل الجهاز بعدها اسم "قلم ضبط ب"، ثم "القسم السري الخصوصي"، وللهروب من الغضب الشعبي تم تغيير اسم الجهاز قبل ثورة يوليو وحمل اسمه الشهير "القلم السياسى" صاحب الذكريات المرعبة في عهد عبد الناصر، وفي تلك الفترة تعملق الجهاز وتجبر وأصبح أكبر وأخطر أدوات القمع في مصر كلها، وهو الأمر الذي دفع جمال عبد الناصر لأن يتخلص منه ومن الغضب الشعبي عليه وعلى رجاله بتغيير اسمه إلى "جهاز المباحث العامة"، ولكن على نفس الطريقة طريقة تغيير الأسماء والملامح فقط، أما الجهاز نفسه فظل على حاله يمارس تتبعه للمعارضين والتجسس على الصغيرة قبل الكبيرة في مصر، وعقب ثورة التصحيح والكشف عن التسجيلات والمعتقلات أراد السادات أن يلعب اللعبة نفسها ويثبت للناس أنه قادم وفي يده الحرية، وبالتالي كان لابد أن يتخلص من جهاز التسجيلات والبطش المعروف، وظهرت القضية الأشهر بقضية "انحراف قيادات جهاز المباحث العامة"، وتم القبض عليهم، ومنهم صفوت الشريف الموجود بسجن طرة الآن، وبعدها اتبع السادات نفس الخطة القديمة، وقام بتغيير اسمه إلى "جهاز أمن الدولة"، وبمرور سنة وراء أخرى في فترة السادات بدأ الجهاز يأخذ شكله المرعب الذي أصبح عليه في عصر المخلوع مبارك، بحيث أصبح متحكمًا في كل الأمور، فلا ورقة رسمية في مصر تأتي أو تذهب إلا بعلم أمن الدولة، ولا أحد يتنفس إلا باسم الجهاز الذى امتلك الحق في التعذيب والاعتقال وتسجيل المكالمات واختطاف المعارضين في الشوارع دون أن يملك أحد حق الاعتراض، حتى القضاء نفسه، وحينما اشتعلت ثورة 25 يناير وخرج الناس يطالبون برقبة رجال جهاز أمن الدولة، ويرفعون شعار حل أمن الدولة والقضاء عليه قبل شعار رغبتهم فى رغيف عيش بلا مسامير، لجأت وزارة الداخلية إلى نفس الخدعة القديمة، وقامت بتغيير اسم الجهاز دون تقديم أية ضمانة حقيقية أو قانونية تكفل عدم عودته إلى وضعه السابق.
تعاملت وزارة الداخلية مع المصريين وكأن العصافير مازالت تعشش على أقفائهم، وملامح السذاجة لم تفارق وجوههم، وتخيلوا أن تغيير الاسم أمر كاف لكي ينسى المصريون أن الجهاز الذى اعتقل وعذب الآلاف منهم وأفسد الحياة السياسية لم يحاسبه أحد، ولم ينل رجاله العقاب المناسب على ما فعلوه في مصر وشعبها، ومع الإعلان عن عودة جهاز الأمن الوطني لعمله فى المحافظات والمطارات بدأت المراكز الحقوقية ووسائل الإعلام تتلقى شكاوى بالجملة من المواطنين كلها تدور حول أن الذين عادوا للعمل تحت مسمى "جهاز الأمن الوطني" هم أنفسهم من ضباط وأمناء ومخبري جهاز أمن الدولة السابق الذين أفسدوا وعذبوا والذين طالما قدمت ضدهم شكاوى وبلاغات بسبب تعسفهم وفسادهم، حدث هذا في الغربية وفي الشرقية والوادي الجديد الذي نظم المواطنون فيه اعتصامًا احتجاجًا على بقاء ضباط أمن الدولة الفاسدين تحت لافتة "الأمن الوطني"، وهو نفس الاعتصام الذي تكرر في المنوفية، حينما فوجيء المواطنون بوجود 6 من ضباط جهاز أمن الدولة "المنحل" ضمن "جهاز الأمن الوطني" الجديد.
الطبخة التي أعدتها داحلية ما بعد الثورة للشعب باسم "جهاز الأمن الوطني" ماسخة ومائعة، والأرقام التى أوردها اللواء الوشاحى فى دراسته تكشف لماذا تحولت لعبة تغيير اسم الجهاز من لعبة مضمونة في الماضي حدثت بعد ثورتي يوليو والتصحيح إلى خدعة مفضوحة لا يمكن أن يصدقها أصغر عيل في أصغر حارة بعد ثورة 25 يناير، أمن الدولة ذلك الجهاز الجبار الذي حظي بدعم الدولة ورعاية وزارة الداخلية، وكان يملك حق تقرير الصغيرة قبل الكبيرة في البلد كان قوامه الرئيسي 3 آلاف ضابط وحوالى 15 ألف أمين وجندى، بالإضافة إلى 15 ألف موظف مدني لا يمكن تبرئتهم من أعمال الإرشاد وكتابة التقارير ونقل المعلومات، بالإضافة إلى عدد ضخم من من المرشدين يصل إلى حوالى مليون مرشد، وكل هذا موزع على مختلف محافظات مصر عبر 29 فرعا، أضف إلى تلك الأرقام حالة السرية التى أحاطت بالجهاز، والتي توحي بأن الكثير من أسرار هذا الجهاز ومقراته وسجونه ورجاله مازالوا طي الكتمان.
كل هذه الأرقام والأعداد الضخمة حاول وزير الداخلية أن يقنعنا أنه تم هيكلتها في شهر واحد فقط، هي الفترة الزمنية التى فصلت بين إعلان حل الجهاز وإعلان بدء جهاز الأمن الوطني عمله في المطارات والمحافظات المختلفة، شهر واحد في الظروف العادية حيث البلد أكثر استقرارًا، وحيث مقرات الجهاز السابق على حالها، ولم تتعرض للحرق أو التدمير والملفات لم تتعرض للسرقة والتسريب، لا يكفي أبدا لإعادة تشغيل، أو حتى وضع خطط أمنية واضحة مختلفة عن الخطط السابقة، ولا تكفي لتدريب الضباط القدامى أو الجدد على أساليب عمل تختلف عن الأساليب القديمة، شهر واحد في الظروف العادية لا يكفي لإعادة تقييم الأفراد العاملين بالجهاز والذين يبلغ عددهم مجتمعين أكثر من 33 ألف، ودراسة ملفاتهم من أجل استبعاد المتهمين في قضايا فساد وتعذيب، والتفرقة بين من هم على استعداد لتقبل أساليب العمل الجديدة، ومن هم باقون على ولائهم للنظام القديم، صعوبة حدوث ذلك خلال شهر واحد في ظروف طبيعية يعني استحالة حدوثه تمامًا في تلك الظروف الصعبة التي تعيشها مصر، والتي تعيشها وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة على وجه التحديد، ولا أعرف كيف تخيلت الداخلية أن المواطن المصري سيصدق بسهولة أنه تم تقييم 3 آلاف ضابط نصفهم على الأقل متهم بالفساد والتعذيب خلال أسبوعين أو ثلاثة بشكل يضمن براءتهم من التهم المنسوبة إليهم، ويضمن عملهم بشكل مخالف عما كان فى السابق؟!، لا أعرف كيف تخيلت أن الناس في مصر ستصدق خدعة حل جهاز أمن الدولة، وخدعة تسريح ضباطه المتهمين بالسرقة والفساد والتعذيب، ونحن لم نسمع عن ضابط أمن دولة واحد تم تقديمه للمحاكمة، أو تم التحقيق في البلاغات المقدمة ضده، والتي تملك المراكز الحقوقية منها الكثير؟!، هل يعقل ألا نسمع عن أي محاكمة أو تحقيق مع ضباط الجهاز الذين كانوا أكثر انتهاكًا للقانون وتعذيبًا للمواطنين وتبديدًا للمال العام، حيث كان الجهاز يمتلك مصروفات سرية تصل إلى 50 مليون جنيه في الشهر الواحد طبقًا للمعلومات الورادة في دراسة اللواء الوشاحي؟!، وهل يمكن أن نصدق أن الجهاز الحالي تم تطهيره من ضباط التعذيب ونحن نعلم طبقًا لتصريحات الداخلية أن 25% فقط من قوة الجهاز تم تغييرها؟.
حينما تقارن حجم فساد الجهاز وحجم الغضب الشعبي منه في كل محافظات مصر، وحجم الشكاوى المقدمة ضد ضباطه في مراكز حقوق الإنسان ووسائل الإعلام، ستعرف أن تطهير الجهاز يستدعي مضاعفة نسبة الـ 25% ثلاث مرات على الأقل.
في الأمر إذن خدعة كبرى اسمها حل جهاز أمن الدولة، خدعة تكشف أن الجهاز القمعي باقٍ ويعيش حالة سكون في انتظار اللحظة المناسبة لإعادة ممارسة نشاطه، خدعة يمكن كشفها بسهولة من خلال مراوغة وزارة الداخلية في وضع قوانين واضحة تحكم عمل الجهاز وتجعل من خططه وعمله أمورًا علانية خاضعة للمراقبة والتدقيق.
لا تصدقوا وزارة الداخلية إذن، ولا تصدقوا كذبة "جهاز الأمن الوطني"، فما حدث لم يتعدَ كونه تغييرًا لليفط والشعارات والأسماء، أمر واحد فقط يمكنه أن يبريء وزارة الداخلية، أمر بسيط لن يكلفهم سوى نشر كل أسماء الضباط العاملين في "جهاز الأمن الوطني" الآن، ومراجعة ملفات الشكاوى بوزارة الداخلية والمراكز الحقوقية ودراسة ملفات كل ضابط وتقييم أدائه في المنطقة التى كان يعمل بها، حتى نضمن أن الذين عادوا إلى الجهاز هم أهل الكفاءة والشرف، وليس أهل الواسطة وملفات التعذيب.
وسنقول دومًا أن المصالحة لا تكون إلا في مقابل المصارحة، أما عدا ذلك فهو مضيعة للوقت ومراوغة وجعل مصر على موعد مع انفجار مدو في لحظة مباغتة لا يعلمها الذين لم يتوقعوا اندلاع ثورة 25 يناير رغم تجبرهم وتحكمهم في كل شاردة وواردة، والذين كانوا يريدون أن يختلي الزوجين بإذن منهم ومن وزيرهم الموجود الآن في سجن طرة، استقيموا يرحمكم الله، وتعلموا الدرس ولو لمرة واحدة، كفى الله مصر شر أبنائها وبارك لها في الطيبين منهم!!.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق